إن الشرعية الجنائية تقتضي وجوب وجود نصوص قانونية سابقة لفعل الاعتداء بحيث يكون هذا الأخير معرفا فيها بشكل واضح، وهذا إقراراً لأهم مبادئ القانون الجنائي ألا وهو مبدأ شرعية الجريمة والعقوبة، الذي يقتضي أن يكون النص الجنائي المجرم للإعتداء على البيئة مبينا بصورة واضحة ودقيقة، بحيث تسهل مهمة القاضي الجزائي في استيعابه بسرعة نوع الجريمة والعقوبة المقررة لها، الأمر الذي سيضمن تحقيق فعالية أكبر أثناء تطبيقه، إلا أننا نجد هذا الأمر مستبعدا في التشريع الجنائي البيئي لحد كبير، بل إن ذات التشريع أصبح يشكل في حد ذاته عائقا نحو تفعيله نتيجة كثرة التشريعات في هذا المجال، ورغم هذا الثراء في التشريع فإنه يقابله فقر في التطبيق والذي يرجع أساسا إلى قلة التكوين العلمي والقانوني المتخصص لأعوان الرقابة، إلى جانب الطابع التقني الغالب على القانون البيئي في حد ذاته، كما أن إشكالية التطبيق الزماني والمكاني للنص البيئي تبرز هنا بشكل واضح، إن هذه الصعوبات هي في حقيقة الأمر انعكاس لخصوصية البيئة ومشاكلها فلقد تطرح إشكالية وجود النص الجزائي بشكل سابق عن الفعل الجانح، فهل غياب هذا النص يعني إباحة الفعل الضار؟
إن إقرار المشرع الجزائري لمبدأ الحيطة le principe de prévention والذي يقتضي توفير الحماية الجنائية للبيئة بصفة مسبقة عن وقوع الضرر البيئي بالرغم من غياب النص الجزائي، يجعل من مفهوم مبدأ شرعية التجريم يعرف توسعا في هذا المجال، لاسيما عند وجود احتمال بالخطر، بل عن وقوع هذا الضرر البيئي والذي غالبا ما يكون ضررا مستمرا يجعل من النص الجنائي البيئي الصادر في المستقبل يسري بأثر رجعي وهذا لقمع الإعتداء على البيئة من جهة، وعدم تمكين الجانح من الإفلات من العقاب من جهة أخرى.
إن هذا الأمر يمس بركن هام من أركان القانون الجنائي، لذا لابد من قصره على الجرائم البيئية أو تلك الجرائم البيئية الخطيرة، والتي يكون الهدف من تطبيق النص الجنائي هو متابعة الجانح والحصول على تعويض منه عن الأضرار التي ألحقها بالبيئة .
ثانيا: الركن المادي للجريمة البيئية
يعد الركن المادي لأي جريمة بمثابة عمودها الفقري الذي لا تتحقق إلا به بحيث يشكل مظهرها الخارجي فالقانون الجنائي لا يعاقب على مجرد التفكير في الجريمة أو مجرد الدوافع وإنما يلزم أن تظهر تلك النزعات والعوامل في صورة واقعة مادية هي الواقعة الإجرامية.
فالركن المادي يعد أهم أركان الجريمة البيئية التي تتميز بضعف ركنها المعنوي، فطبيعة النصوص البيئية التنظيمية تجعل من مجرد الامتناع عن تنفيذ أحكامها جريمة قائمة في حد ذاتها إنها جرائم بيئية بالإمتناع، أو قد تكون أحيانا عبارة عن جرائم بيئية بالنتيجة.
1/ الجرائم البيئية بالإمتناع عن تطبيق النصوص التنظيمية:
تشغل النصوص التنظيمية الحيز الأكبر للتشريع البيئي، وهي تعتبر أداة فعالة لمواجهة الجنوح البيئية من خلال الأجهزة المكلفة بتطبيقها، فمخالفة هذه التنظيمات تشكل جرائم بيئية، إنها الجرائم البيئية الشكلية بالإمتناع أو قد تنتج عن سلوك للمخالف يمتنع فيه إيجابيا عن تطبيق ذلك التنظيم إنها الجرائم البيئية الإيجابية بالامتناع.
أ/ الجرائم البيئية الشكلية: يتمثل السلوك الإجرامي في هذا النوع من الجرائم في عدم إحترام الالتزامات الإدارية أو المدنية أو الأحكام التقنية والتنظيمية، كغياب ترخيص أو القيام بنشاط غير موافق للأنظمة، وهذا بغض النظر عن حدوث ضرر بيئي فهي عبارة عن جرائم شكلية لا يشترط فيها وقوع نتيجة، فتجريم هذا النوع من السلوك أثر وقائي بحيث يسمح بحماية البيئة قبل حدوث الضرر أو على الأقل التخفيف منه إلا أنه بالمقابل قد يطرح إشكالاً بالنسبة لرجل القانون من أجل
فهم تلك الجرائم والتي تعد عبارة عن جرائم علمية ولكن بثوب قانوني مادام أن الحدود التي لا يجب تجاوزها هي عبارة عن مواصفات تقنية يصعب عليه إدراكها.
ب/ الجرائم البيئية الإيجابية بالإمتناع: إذا كانت الجرائم الشكلية تقع بمجرد عدم تطبيق المواصفات التقنية الواردة في النص البيئي، فإن الجرائم البيئية الإيجابية بالإمتناع تقع نتيجة سلوك سلبي من الجانح ينصب على مخالفة التنظيم البيئي المعمول به، أي أن الفرق يكون في صفة تصرف الجانح هل كان جامدا أم متحركا؟
وعلى هذا الأساس نكون أمام جريمة بيئية إيجابية بالإمتناع عند عدم تطبيق النص البيئي المعمول به، بغض النظر عن تحقق نتيجة عن ذلك، فإنبعاث غازات من مصنع بقدر يتجاوز فيه الحدود المسموح بها نتيجة الإمتناع عن وضع آلات التصفية يشكل جريمة إيجابية بالإمتناع، أما مجرد عدم وضع آلات للتصفية بالمواصفات المحددة قانونا يشكل جريمة شكلية بالامتناع وهذا حتى و لو لم يحدث انبعاث لغازات ملوثة.
2/الجرائم البيئية بالنتيجة:
بخلاف جرائم الامتناع لا تقع الجرائم البيئية بالنتيجة إلا بوجود اعتداء مادي على إحدى المجالات البيئية سواء كان ذلك بصفة مباشرة أو غير مباشرة، والمجال الخصب لهذا النوع من الجرائم هو الاعتداء المادي على الثروة الحيوانية والنباتية والثروة البحرية .
كما أنه يشترط لقيام الجريمة البيئية وجود علاقة سببية بين الفعل الجانح والضرر البيئي، فإن توافرها أمر ضروري لمتابعة الجانح عن أفعاله .
ثالثا: الركن المعنوي للجريمة البيئية
يعد الركن المعنوي من أهم أركان أي جريمة والذي يتمثل في نية وإرادة الجاني في ارتكاب الفعل مع علمه بأركان الجريمة، إلا أن أغلب النصوص البيئية لا نجدها تشير إليه مما يجعل أغلب الجرائم البيئية جرائم مادية تستخلص المحاكم الركن المعنوي فيها من السلوك المادي نفسه، وتكتفي النيابة العامة بإثبات الركن الشرعي والمادي للجريمة لينجم عن ذلك قيام مسؤولية المتهم، فلقد تم تمديد قاعدة عدم ضرورة إثبات وجود الخطأ الجنائي من مادة المخالفات، والتي تعد كثيرة في المجال البيئي إلى بعض الجنح البيئي.