:
التَّعْرِيفُ :
1 - الْبَيْعُ لُغَةً مِنَ الأَْضْدَادِ مِثْل الشِّرَاءِ ، وَالأَْصْل فِي الْبَيْعِ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ ، وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي وَصْفِ الأَْعْيَانِ ، لَكِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا ، لأَِنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ . وَالْبَاطِل مِنْ بَطَل الشَّيْءُ : فَسَدَ أَوْ سَقَطَ حُكْمُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ .
وَالْبَيْعُ اصْطِلاَحًا : مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ .
وَالْبَيْعُ الْبَاطِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ : مَا لَمْ يُشْرَعْ لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ .
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل فِي الْجُمْلَةِ - هُوَ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ أَثَرُهُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُثْمِرْ وَلَمْ تَحْصُل بِهِ فَائِدَتُهُ مِنْ حُصُول الْمِلْكِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - الْبَيْعُ الصَّحِيحُ :
2 - هُوَ : مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ ، وَيُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ إِذَا خَلاَ مِنَ الْمَوَانِعِ . أَوْ هُوَ : مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ مِنْ حُصُول الْمِلْكِ وَالاِنْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ . وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُبَايِنٌ لِلْبَيْعِ الْبَاطِل .
ب - الْبَيْعُ الْفَاسِدُ :
3 - الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِل وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل .
وَيُعَرِّفُهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ : مَا شُرِعَ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ .
أَوْ هُوَ : مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ ، وَلَكِنَّهُ مَطْلُوبُ التَّفَاسُخِ شَرْعًا ، وَهُوَ مُبَايِنٌ لِلْبَاطِل كَمَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ ؛ لأَِنَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ فَقَطْ يُبَايِنُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلاً . وَأَيْضًا حُكْمُ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ ، وَالْبَاطِل لاَ يُفِيدُهُ أَصْلاً ، وَتَبَايُنُ الْحُكْمَيْنِ دَلِيل تَبَايُنِهِمَا .
ج - الْبَيْعُ الْمَكْرُوهُ :
4 - هُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ ، لَكِنْ نُهِيَ عَنْهُ لِوَصْفٍ مُجَاوِرٍ غَيْرِ لاَزِمٍ ، كَالْبَيْعِ عَقِبَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ ، إِذْ النَّهْيُ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مُطْلَقًا ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فِي تَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
5 - الإِْقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ الْبَاطِل مَعَ الْعِلْمِ بِالْبُطْلاَنِ حَرَامٌ ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ ، لاِرْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ ، وَعَدَمِ امْتِثَالِهِ لِمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْهُ ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لَمْ يُشْرَعْ لاَ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ .
هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ ، كَالْمُضْطَرِّ يَشْتَرِي الطَّعَامَ بِزِيَادَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل ، وَكَالْعَقْدِ الَّذِي يُخْتَبَرُ بِهِ رُشْدُ الصَّبِيِّ .
فَقَدْ قِيل : يَشْتَرِي الْوَلِيُّ شَيْئًا ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَى آخَرَ ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطِّفْل بِشِرَائِهِ مِنْهُ ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَى بُطْلاَنِهِ ، كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ ، وَكَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلاَقِيحِ وَالْمَضَامِينِ .
أَمَّا الْبَيْعُ الْمُخْتَلَفُ فِي بُطْلاَنِهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ بِأَنْ كَانَ بَاطِلاً فِي مَذْهَبٍ وَغَيْرَ بَاطِلٍ فِي مَذْهَبٍ آخَرَ ، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ ، وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ ، وَبَيْعِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ ، فَإِنَّ الْمُقْدِمَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الاِجْتِهَادِ فَلاَ يُعْتَبَرُ الْبَيْعُ بَاطِلاً فِي حَقِّهِ ، وَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ، لأَِنَّهُ تَحَرَّى قَصْدَ الشَّارِعِ بِبَذْل الْجُهْدِ ، حَتَّى وَصَل إِلَى دَلِيلٍ يُرْشِدُهُ ، بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَ لَهُ خِلاَفُ مَا رَآهُ بِدَلِيلٍ أَقْوَى لَرَجَعَ إِلَيْهِ ، وَالْمُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ لاَ يُعَاقَبُ ، بَل يَكُونُ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا .
إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلاَفِ ، بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الشَّيْءِ ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا .
وَالْمُقَلِّدُ كَذَلِكَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ فِي سُقُوطِ الإِْثْمِ عَنْهُ ، مَا دَامَ مُقَلِّدًا لإِِمَامِهِ تَقْلِيدًا سَائِغًا . وَالْعَامِّيُّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ ، وَإِنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَخَذَ بِقَوْل أَعْلَمِهِمْ وَأَوْرَعِهِمْ وَأَغْلَبِهِمْ صَوَابًا فِي قَلْبِهِ ، وَلاَ يَتَخَيَّرُ مَا يَمِيل إِلَيْهِ هَوَاهُ ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَتَبُّعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ ، وَقَال قَوْمٌ : لاَ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لأَِنَّ الْكُل طُرُقٌ إِلَى اللَّهِ .
أَسْبَابُ بُطْلاَنِ الْبَيْعِ :
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعِ الْبَاطِل ، فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل وَقَعَ عَلَى خِلاَفِ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ ، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ الأَْثَرَ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى الْبَيْعِ الصَّحِيحِ مِنْ حُصُول الْمِلْكِ وَحِل الاِنْتِفَاعِ .
وَأَسْبَابُ فَسَادِ الْبَيْعِ هِيَ أَسْبَابُ بُطْلاَنِهِ ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْخَلَل الْوَاقِعِ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعَقْدِ ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ ، أَوْ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الْوَصْفِ الْمُلاَزِمِ لِلْفِعْل ، أَوْ عَنِ الْوَصْفِ الْمُجَاوِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي :
أ - الْبَيْعُ الْبَاطِل أَوِ الْفَاسِدُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ حَرَامًا ، وَالْحَرَامُ لاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ الأَْثَرِ عَلَيْهِ ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّصَرُّفِ إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ قَدْ خَرَجَ عَنِ اعْتِبَارِهِ وَشَرْعِيَّتِهِ .
ب - قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ وَالْبَيْعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ .
ج - أَجْمَعَ سَلَفُ الأُْمَّةِ عَلَى الاِسْتِدْلاَل بِالنَّهْيِ عَلَى الْفَسَادِ ، فَفَهِمُوا فَسَادَ الرِّبَا مِنْ قَوْله تَعَالَى : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ .
هَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ : أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ سَبَبَ بُطْلاَنِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَل رُكْنِ الْبَيْعِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الاِنْعِقَادِ ، فَإِذَا تَخَلَّفَ الرُّكْنُ أَوْ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الاِنْعِقَادِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلاً وَلاَ وُجُودَ لَهُ ، لأَِنَّهُ لاَ وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ إِلاَّ مِنَ الأَْهْل فِي الْمَحَل حَقِيقَةً ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُل وَجْهٍ ، إِمَّا لاِنْعِدَامِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ، أَوْ لاِنْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل .
أَمَّا اخْتِلاَل شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلاَ يُجْعَل الْبَيْعُ بَاطِلاً ، كَمَا هُوَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، بَل يَكُونُ فَاسِدًا .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَشْرُوعٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْجُمْلَةِ ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصَلِهِ : النُّصُوصُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي بَابِ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى : { وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَيُلْحَظُ هُنَا أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَايِرُونَ الْمَذْهَبَ الْحَنَفِيَّ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِل وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، رَغْمَ أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْعَامَّةَ عِنْدَهُمْ تُخَالِفُ ذَلِكَ .
جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ : فَرَّقَ الأَْصْحَابُ بَيْنَ الْبَاطِل وَالْفَاسِدِ ، فَقَالُوا : إِنْ رَجَعَ الْخَلَل إِلَى رُكْنِ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الصَّبِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى شَرْطِهِ أَوْ صِفَتِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ .
7 - بَعْدَ هَذَا التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ ، هُنَاكَ مِنَ الْبُيُوعِ الْبَاطِلَةِ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلاَنِهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ ، كَالْبَيْعِ الَّذِي حَدَثَ خَلَلٌ فِي رُكْنِهِ ، أَوْ فِي شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ انْعِقَادِهِ ، كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمَلاَقِيحِ وَالْمَضَامِينِ فَهَذِهِ مُتَّفَقٌ عَلَى بُطْلاَنِهَا .
وَهُنَاكَ مِنَ الْبُيُوعِ مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِي بُطْلاَنِهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ ، وَهُوَ مَا رَجَعَ الْخَلَل فِيهَا لِغَيْرِ مَا سَبَقَ .
فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ مَثَلاً صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَالْبَيْعُ عِنْدَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ ، وَبَيْعِ الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ ، وَبَيْعِ النَّجْشِ ، وَهَكَذَا .
وَيَرْجِعُ سَبَبُ الاِخْتِلاَفِ فِي الْحُكْمِ عَلَى مِثْل هَذِهِ الْبُيُوعِ بِالْبُطْلاَنِ أَوْ عَدَمِهِ إِلَى الاِخْتِلاَفِ فِي الدَّلِيل .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ الْبَاطِل مِنْ أَحْكَامٍ :
8 - الْبَيْعُ الْبَاطِل لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ ، لأَِنَّهُ لاَ وُجُودَ لَهُ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ، وَهُوَ مَنْقُوضٌ مِنْ أَسَاسِهِ ، وَلاَ يَحْتَاجُ لِحُكْمِ حَاكِمٍ لِنَقْضِهِ .
وَلاَ تَلْحَقُهُ الإِْجَازَةُ لأَِنَّهُ مَعْدُومٌ ، وَالإِْجَازَةُ لاَ تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ .
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْبَيْعِ الْمُجْمَعِ عَلَى بُطْلاَنِهِ ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ ،
فَإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ صَحَّ الْعَقْدُ قَضَاءً ، حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُول بِبُطْلاَنِهِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ ؛ لأَِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ . وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ تَلْحَقُهُ الإِْجَازَةُ .
وَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ الْبَاطِل ، فَإِنَّ وُجُودَهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي :
أ - التَّرَادُّ :
9 - إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ الْبَاطِل وَحَدَثَ فِيهِ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ رَدُّهُ ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لاَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ ، وَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ .
يَقُول ابْنُ رُشْدٍ : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ إِذَا وَقَعَتْ وَلَمْ تَفُتْ ، حُكْمُهَا الرَّدُّ ، أَيْ أَنْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ ، وَيَرُدَّ الْمُشْتَرِي الْمَثْمُونَ وَأُجْرَةُ مِثْلِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ نَقْصَهُ ، لأَِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، فَأَجْزَاؤُهَا تَكُونُ مَضْمُونَةً أَيْضًا .
صَرَّحَ بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ، وَهُوَ مَا تُفِيدُهُ قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ تَغَيُّرَ الذَّاتِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ يُعْتَبَرُ فَوْتًا يَنْتَقِل الْحَقُّ فِيهِ إِلَى الضَّمَانِ
ب - التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ :
10 - إِذَا تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بَيْعًا بَاطِلاً بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ ، لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ ، فَيَكُونُ قَدْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ ، وَتَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ كَتَصَرُّفَاتِ الْغَاصِبِ ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لاَ يَمْنَعُ الرَّدَّ لِعَدَمِ نُفُوذِهِ ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ يُعْتَبَرُ مُفَوِّتًا ، وَيَنْتَقِل الْحَقُّ فِيهِ إِلَى الضَّمَانِ .
ج - الضَّمَانُ :
11 - إِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْل فِي الْمِثْلِيِّ وَالْقِيمَةِ فِي الْمُتَقَوَّمِ .
وَالْقِيمَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُقَدَّرُ بِأَقْصَى الْقِيَمِ فِي الْمُتَقَوَّمِ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ ، وَفِي وَجْهٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّلَفِ ، وَفِي وَجْهٍ يَوْمَ الْقَبْضِ .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ تَلِفَ بِبَلَدِ قَبْضِهِ فِيهِ ، قَالَهُ الْقَاضِي ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ ، وَلأَِنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةُ ، وَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ فِي الْغَصْبِ : أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ ، فَيَخْرُجُ هَاهُنَا كَذَلِكَ ، وَهُوَ أَوْلَى ، لأَِنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فِي حَال زِيَادَتِهَا ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا مَعَ زِيَادَتِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي حَال تَلَفِهَا .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ ، يَقُولُونَ : إِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي مَضَى الْمُخْتَلَفُ فِيهِ - وَلَوْ كَانَ الْخِلاَفُ خَارِجَ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ - بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَلَفًا فِيهِ - بَل مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ - ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ إِنْ كَانَ مُقَوَّمًا حِينَ الْقَبْضِ ، وَضَمِنَ مِثْل الْمِثْلِيِّ إِذَا بِيعَ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا ، وَعُلِمَ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ وُجُودُهُ ، وَإِلاَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ .
وَلِلْحَنَفِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ ، وَهُوَ : أَنَّ الْمَبِيعَ يَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ فِي الْحِفْظِ ، لأَِنَّهُ مَالٌ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فِي عَقْدٍ وُجِدَ صُورَةً لاَ مَعْنًى ، فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ إِذْنُهُ بِالْقَبْضِ .
د - تَجَزُّؤُ الْبَيْعِ الْبَاطِل :
12 - الْمُرَادُ بِتَجَزُّؤِ الْبَيْعِ الْبَاطِل : أَنْ يَشْتَمِل الْبَيْعُ عَلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، فَيَكُونُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ : إِذَا اجْتَمَعَ الْحَلاَل وَالْحَرَامُ غُلِّبَ الْحَرَامُ . وَأَدْخَل الْفُقَهَاءُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يُسَمَّى بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ،
وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ .
وَعَقْدُ الْبَيْعِ إِذَا كَانَ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا ، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ بَاطِلاً ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَصِيرِ وَالْخَمْرِ ، أَوْ بَيْنَ الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ ، وَبِيعَ ذَلِكَ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - عَدَا ابْنَ الْقَصَّارِ مِنْهُمْ - وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ ( وَادَّعَى الإِْسْنَوِيُّ فِي كِتَابِ الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَتَى بَطَل الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَل فِي الْكُل ؛ لأَِنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلاَل عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا ، أَوْ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ .
وَالْقَوْل الأَْظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّهُ يَجُوزُ تَجْزِئَةُ الصَّفْقَةِ ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِيمَا يَجُوزُ ، وَيَبْطُل فِيمَا لاَ يَجُوزُ ؛ لأَِنَّ الإِْبْطَال فِي الْكُل لِبُطْلاَنِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ الْكُل لِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا ، فَيَبْقَيَانِ عَلَى حُكْمِهِمَا ، وَيَصِحُّ فِيمَا يَجُوزُ ، وَيَبْطُل فِيمَا لاَ يَجُوزُ .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إِنْ عَيَّنَ ابْتِدَاءً لِكُل شِقٍّ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُعْتَبَرُ الصَّفْقَةُ صَفْقَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ تَجُوزُ فِيهِمَا التَّجْزِئَةُ ، فَتَصِحُّ وَاحِدَةٌ وَتَبْطُل الأُْخْرَى .
وَهَذِهِ إِحْدَى صُوَرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِي شِقٍّ مِنْهُ صَحِيحًا ، وَفِي الشِّقِّ الآْخَرِ مَوْقُوفًا ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ دَارِهِ وَدَارِ غَيْرِهِ ، وَبَيْعِهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ فِيهِمَا ، وَيَلْزَمُ فِي مِلْكِهِ ، وَيُوقَفُ اللُّزُومُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى إِجَازَتِهِ ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً ، وَجَوَازُ ذَلِكَ بَقَاءً .
وَعِنْدَ زُفَرَ : يَبْطُل الْجَمِيعُ ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَجْمُوعِ ، وَالْمَجْمُوعُ لاَ يَتَجَزَّأُ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : يَجْرِي الْخِلاَفُ السَّابِقُ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ فِي الأَْصْل .
وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ قُدَامَةَ ، وَهِيَ : أَنْ يَبِيعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولاً ، كَقَوْلِهِ : بِعْتُكَ هَذِهِ الْفَرَسَ وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْفَرَسِ الأُْخْرَى بِأَلْفٍ ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِكُل حَالٍ . قَال ابْنُ قُدَامَةَ : وَلاَ أَعْلَمُ فِي بُطْلاَنِهِ خِلاَفًا .
هـ - تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْبَاطِل :
13 - تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْبَاطِل يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَتَيْنِ .
الأُْولَى : إِذَا ارْتَفَعَ مَا يَبْطُل الْعَقْدَ ، فَهَل يَنْقَلِبُ الْبَيْعُ صَحِيحًا ؟
الثَّانِيَةُ : إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْبَيْعِ الْبَاطِل تُؤَدِّي إِلَى مَعْنَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ ، فَهَل يَتَحَوَّل الْبَيْعُ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي : أَمَّا الصُّورَةُ الأُْولَى : فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْبَاطِل وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ دُونَ الْبَاطِل ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْمُفْسِدِ فِي الْفَاسِدِ يَرُدُّهُ صَحِيحًا ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ مَعَ الْفَسَادِ ، وَمَعَ الْبُطْلاَنِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِصِفَةِ الْبُطْلاَنِ ، بَل مَعْدُومًا .
وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ، وَالْبِزْرِ فِي الْبِطِّيخِ ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ ، لأَِنَّهُ مَعْدُومٌ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي اللَّبَنَ ، أَوِ الدَّقِيقَ ، أَوِ الْعَصِيرَ ، لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا ؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْعَقْدِ ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ ، فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلاً ، فَلاَ يَحْتَمِل النَّفَاذَ .
14 - أَمَّا الْجُمْهُورُ ( وَهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل ) فَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَيْعَ الْبَاطِل لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ .
فَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ : لَوْ حَذَفَ الْعَاقِدَانِ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ ، وَلَوْ فِي مَجْلِسِ الْخِيَارِ ، لَمْ يَنْقَلِبِ الْعَقْدُ صَحِيحًا ، إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ .
وَفِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ : لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَوْ يُقْرِضَهُ ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : لاَ يَحِل سَلَفٌ وَبَيْعٌ ، وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ ، وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ .
وَلأَِنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَفَسَدَ ، كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ ، وَلأَِنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لأَِجَلِهِ ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عِوَضًا عَنِ الْقَرْضِ وَرِبْحًا لَهُ ، وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ ، فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ ، وَلأَِنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَلاَ يَعُودُ صَحِيحًا ، كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا .
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ : مَنْ بَاعَ بِشَرْطِ ضَمَانِ دَرْكِهِ إِلاَّ مِنْ زَيْدٍ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ لَهُ ؛ لأَِنَّ اسْتِثْنَاءَ زَيْدٍ مِنْ ضَمَانِ دَرْكِهِ يَدُل عَلَى حَقٍّ لَهُ فِي الْمَبِيعِ ، لأَِنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ فَيَكُونُ بَاطِلاً ، ثُمَّ إِنْ ضَمِنَ دَرْكَهُ مِنْهُ أَيْضًا لَمْ يُعَدَّ الْبَيْعُ صَحِيحًا ؛ لأَِنَّ الْفَاسِدَ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا .
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ كُل شَرْطٍ يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَبَيْعِ الثُّنْيَا ( بَيْعُ الْوَفَاءِ ) - وَهُوَ أَنْ يَبْتَاعَ السِّلْعَةَ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ فَالسِّلْعَةُ لَهُ - وَكَذَا كُل شَرْطٍ يُخِل بِقَدْرِ الثَّمَنِ كَبَيْعٍ وَشَرْطٍ سَلَفًا ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا .
لَكِنْ يَصِحُّ الْبَيْعُ إِنْ حُذِفَ شَرْطُ السَّلَفِ ، وَكَذَا كُل شَرْطٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ ، إِلاَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَهَا ، وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ وَهِيَ :
( 1 ) مَنِ ابْتَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَالثَّمَنُ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَلَوْ أَسْقَطَ هَذَا الشَّرْطَ ، لأَِنَّهُ غَرَرٌ ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ : إِنْ مَاتَ فَلاَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ وَرَثَتَهُ بِالثَّمَنِ .
( 2 ) شَرْطُ الثُّنْيَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَلَوْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ .
( 3 ) شَرْطُ النَّقْدِ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ : قَال ابْنُ الْحَاجِبِ : لَوْ أَسْقَطَ شَرْطَ النَّقْدِ فَلاَ يَصِحُّ .
أَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الإِْخْلاَل بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهَذَا يُوجِبُ الْفَسْخَ ، وَلَيْسَ لِلْعَاقِدَيْنِ إِمْضَاؤُهُ .
15 - وَمَنَاطُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا سَبَقَ كَمَا قَال ابْنُ رُشْدٍ هُوَ : هَل إِذَا لَحِقَ الْفَسَادُ بِالْبَيْعِ مِنْ قِبَل الشَّرْطِ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ إِذَا ارْتَفَعَ الشَّرْطُ أَمْ لاَ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ ؟ كَمَا لاَ يَرْتَفِعُ الْفَسَادُ اللاَّحِقُ لِلْبَيْعِ الْحَلاَل مِنْ أَجْل اقْتِرَانِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنِ بِهِ ؟
كَمَنْ بَاعَ فَرَسًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَزِقَّ خَمْرٍ ، فَلَمَّا عَقَدَ الْبَيْعَ قَال : أَدَعُ الزِّقَّ ، وَهَذَا الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِإِجْمَاعٍ .
وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ . وَهُوَ : هَل هَذَا الْفَسَادُ حُكْمِيٌّ ( تَعَبُّدِيٌّ ) أَوْ مَعْقُولٌ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : حُكْمِيٌّ ، لَمْ يَرْتَفِعْ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ . وَإِنْ قُلْنَا : مَعْقُولٌ ، ارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الشَّرْطِ .
فَمَالِكٌ رَآهُ مَعْقُولاً ، وَالْجُمْهُورُ رَأَوْهُ غَيْرَ مَعْقُولٍ .
وَالْفَسَادُ الَّذِي يُوجَدُ فِي بُيُوعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ أَكْثَرُهُ حُكْمِيٌّ ، وَلِذَلِكَ لاَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ أَصْلاً ، وَإِنْ تُرِكَ الرِّبَا بَعْدَ الْبَيْعِ أَوِ ارْتَفَعَ الْغَرَرُ .
16 - أَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ ، وَهِيَ تَحَوُّل الْبَيْعِ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ ، فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي قَاعِدَةِ ( الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا ) .
يَقُول السُّيُوطِيُّ : هَل الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ مَعَانِيهَا ؟ خِلاَفٌ ، وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ . وَمِنْ ذَلِكَ : لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ قَبْل قَبْضِهِ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل ، فَهُوَ إِقَالَةٌ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، وَخَرَّجَهُ السُّبْكِيُّ عَلَى الْقَاعِدَةِ ، وَالتَّخْرِيجُ لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ .
قَال : إِنِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لَمْ يَصِحَّ ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَى فَإِقَالَةٌ ، وَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ لأَِنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْمَبِيعِ قَبْل أَنْ يُقْبَضَ ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَوَّل إِلَى إِقَالَةٍ صَحِيحَةٍ ، إِذْ يَشْتَمِل الْعَقْدُ عَلَى جَمِيعِ عَنَاصِرِ الإِْقَالَةِ .
وَفِي الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ : الاِعْتِبَارُ لِلْمَعْنَى لاَ لِلأَْلْفَاظِ ، صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ .
وَفِي دُرَرِ الْحُكَّامِ : الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لاَ لِلأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي ، وَلِذَا يَجْرِي حُكْمُ الرَّهْنِ فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ .
وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ : أَنَّ مَنْ بَاعَ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ وَشَرَطَ عَلَى الْمُبْتَاعِ أَنْ لاَ يَبِيعَهُ وَلاَ يَهَبَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ فَلاَ بَأْسَ بِهَذَا ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ إِعْطَاءُ الثَّمَنِ لأَِجَلٍ مُسَمًّى .
وَهَكَذَا يَجْرِي حُكْمُ تَحَوُّل الْبَيْعِ الْبَاطِل إِلَى عَقْدٍ آخَرَ صَحِيحٍ ضِمْنَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا .
.
.