___________________________
من استباح الحياة الشخصية؟
انصر الدين لعياضي
----------------------
خسرت شركة ''غوغل'' العديد من الدعاوى القضائية، التي رفعت ضدها في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا بتهمة انتهاك الحياة الشخصية. ولم تتراجع عن فهمها لمعنى الخصوصية. لقد أوضح ''أريك شميث''، مديرها العام السابق ومارك زوكربرغ، مؤسس موقع ''فيس بوك'' هذا المعنى في التصريح التالي: ''إن عصر الخصوصية أو حماية الحياة الخاصة قد ولى. فنحن نعيش في عهد استعراضها الذى لا يقلق سوى الذين قاموا بما يُؤخذون عليه''. فأثار زوبعة من النقد والاحتجاج، واعتبرته بعض منظمات المجتمع المدني عذرا أقبح من ذنب. والذنب في هذا المقام هو بيع المعلومات الشخصية للراغبين فيها، خاصة الشركات العاملة في مجال الإشهار والتسويق. أما العذر فيتمثل في التسليم بحتمية انتهاك الحياة الشخصية وإضفاء الشرعية عليه، أي نسف ما ظلت مختلف الدساتير والقوانين التشريعية تسعى لحمايته، من خلال حظر انتهاك سرية المراسلات والمكالمات الهاتفية وعدم المساس بحياة الناس الحميمية. والتاريخ يشهد أن العديد من وسائل الإعلام جرجرت إلى المحاكم، في أكثر من بلد، بتهمة المساس بالحياة الشخصية. ربما يثلج التصريح المذكور صدر بعض الصحافيين الذين احترفوا مهنة التلصص على حياة الغير الحميمية. ويفرح الكثير من ''البابارتزي'' الذين يسترزقون من تصوير فتات الحياة الخاصة لغيرهم. وبالمقابل يقلق العديد من المشرعين والمنافحين عن حقوق الإنسان، لأنه أرغمهم على الخوض في نقاش فلسفي لترسيم الحدود الهشة التي تفصل الحقين: الحق في الإعلام والمعرفة، والحق في حماية الحياة الشخصية. والتعامل مع القضايا الملموسة التي يختزنها السؤال التالي: هل يمكن للأشخاص أن يتجنبوا اختراق حياتهم الخاصة في العالم المعاصر؟ لقد استشرت فلسفة ''أنا أظهر إذا أنا موجود'' في العصر الحالي. فالتنافس الشديد على مناصب العمل والتدافع لنيل الشهرة يتطلبان الظهور. ويشترط هذا الأخير تسليط الضوء على جوانب من الحياة الخاصة. والدليل على ذلك أن نجوم الفن والمودة والرياضة أضحوا يتوسلون وسائل الإعلام المختلفة لسرد تفاصيل حياتهم الشخصية حتى يظهروا كأشخاص عاديين. فمن يميط اللثام أكثر عن خصوصيته تزداد شعبيته! وقد جاءت برامج تلفزيون الواقع و''التوك شو'' لترسّخ ذلك أكثر. إن الخوف من الأخ الأكبر الذي تحدّث عنه ''جورج أرويل'' في 1948 زال، لأن هذا الأخ تحول إلى برنامج تلفزيوني مسل. يجب الإقرار بأننا ساهمنا، بدون وعي في إباحة حياتنا الشخصية. فتسابقنا لنشر صورنا وصور عائلتنا في أفراحنا وأتراحنا، بطيبة خاطر في مواقع الشبكات الاجتماعية. وأضحت محركات البحث وبرامج الجوسسة في الكمبيوتر تملك ما يُمكِّنها من تشكيل ملامح شخصيتنا واهتماماتنا وميولنا من خلال المواقع الإلكترونية التي نزورها وما نشتريه عبر الانترنت، والوصلات الإلكترونية التي نكبس عليها، والأشخاص الذين نقبل صداقتهم الافتراضية والرسائل التي نبعثها، والصفحات التي نتصفحها في الجرائد الإلكترونية. لقد وقف مدير شركة ''والت ديزني'' على ما هو أدهى من هذا عندما نقل ابنته الصغرى رفقة زميلاتها بسيارته إلى المدرسة. لقد اندهش من صمتهن ولجوئهن إلى التخاطب عبر رسائل نصية قصيرة. فقال لابنته: ألا يكفيك حضورهن بجانبك؟ فردت قائلة: إنني أحدثهن عن أشياء لا أريد أن تسمعها''. إن سؤال الأب يذكّرنا بما توصلت إليه الباحثة الأمريكية ''دانه بويد''، والذي مفاده أن دك جدران الخصوصية يبدأ في الأسرة وليس على مستوى السلطات العمومية والتجار. فلا يترك بعض الآباء فرصة للأبناء للتعامل مع ''حياتهم الخاصة''. إنهم يقتحمون غرف نومهم وقت ما يشاؤون، ويفتشون محافظهم وجيوبهم كل مرة، ويتلصصون على مكالماتهم الهاتفية، ويتفقدون كمبيوتراتهم الشخصية لاقتفاء أثر إبحارهم في شبكة الانترنت. فالرقابة اللصيقة التي يتعرض لها الأطفال في الصغر تفقدهم معنى ''الخصوصية'' في الكبر. لم يدرك هؤلاء الآباء، مع الأسف، أن أحسن طريقة لضمان تربية حسنة لأطفالهم هي تدريبهم على التحكم في سلوكهم وتصرفاتهم. لكن ما يدهشنا هو اندهاش هؤلاء الآباء من الجيل الرقمي الذي يرونه فاقد العفة ولا يقدّر الخصوصية، ولا يميز بين الحياة الخاصة والعامة. ألا يدرون أنهم ساهموا في ذلك؟ لكن هل تضر إماطة اللثام عن خصوصية الأشخاص دائما؟ ألم تسمح بإنقاذ ضحايا العنف الأسري، على سبيل المثال؟ ألم ترفع الكاميرات المنتصبة في ناصية الشوارع والمطارات ومحطات القطار والبنوك عدد المتمسكين بمقولة: ''إن ضمان أمنك يتطلب إماطة اللثام عن خصوصية غيرك''؟ ولم يثنهم عن ذلك تلميح أحد الممثلين الساخرين الذي تساءل بمكر ''أتعجب كيف أن البريطانيين لا يضعون مساحيق التجميل عند مغادرتهم بيوتهم، فالكاميرات الموجودة في كل مكان تظل تصورهم من كل الزوايا إلى غاية عودتهم''.