الفصل الأول : الأساس القانوني للمسؤولية الإدارية .
إن المسؤولية في معناها الواسع والذي حاول الكثير من الفقهاء إعطاءها تفسيرات وتعريفات كثيرة ورغم الاختلاف البسيط فيها فإن القانون استطاع أن يضع لها نطاقا قانونيا إداريا والذي يتعلق أساسا بمسؤولية الدولة بشكل عام والإدارة بشكل خاص وهذا عن أعمالها الضارة والتي تستوجب التعويض لا محالة .
ورغم تمتع الدولة والإدارة بامتيازات منحها إياها المشرع وهذا محاولة منه لحماية المصلحة العامة فهذا لا يعني أن لا سلبيات لها وهذا محاولة منها في التعسف في استعمال سلطاتها المخولة لها باسم القانون .
لذلك وفي محاولة شجاعة من المشرع الجزائري فقد عبر مراحل متتالية على إيجاد حلول حقيقية قانونية خاصة بالمسؤولية (الدولة ، الإدارة ) فوضع نظاما قضائيا قائما بذاته ونصوصا خاصة تحمي المتضررين من هذين الجهازين المهمين ( الدولة ، الإدارة ) .
لذلك ومن خلال فصلنا الأول سنتطرق لدراسة ماهية المسؤولية وكذا نشأتها والأسس القانونية التي تبنى عليها وفقا لأربع مباحث على الترتيب :
* المبحث الأول : ماهية المسؤولية الإدارية .
* المبحث الثاني : نشأة فكرة المسؤولية .
* المبحث الثالث : المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ .
* المبحث الرابع : المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر .
المبحث الأول : ماهية المسؤولية الإدارية .
من خلال مبحثنا هذا سنحاول تحديد مفهوم للمسؤولية (المفهوم العام والخاص لها ) ونخص بالحديث المسؤولية الإدارية أي مسؤولية الإدارة عن أعمالها وكذا أعمال موظفيها باعتبارهم جزء منها ذلك أن نشاط الإدارة كأي نشاط آخر قد يكون سببا في إحداث أضرار وذلك باعتبار الإدارة سلطة تنفيذية تستعمل وسائل ضخمة وأحيانا خطيرة في أداء مهمتها ، وسنتطرق أيضا لمختلف الفروق بين نظام المسؤولية في القانون الإداري وما هو متداول عليه في القانون المدني باعتباره القاعدة العامة وهذا ما سنوضحه في ما يأتي من مطالب :
·المطلب الأول : التعريف بالمسؤولية الإدارية .
·المطلب الثاني : خصائص المسؤولية الإدارية .
·المطلب الثالث : العلاقة بين المسؤولية الإدارية والمسؤولية المدنية .
المطلب الأول : التعريف بالمسؤولية الإدارية .
المسؤولية لغة : تعني تحمل التبعة أي أنها الحالة القانونية أو الأخلاقية التي يكون فيها الإنسان مسؤولا عن أقوال وأفعال أتاها إخلالا بقواعد وأحكام أخلاقية وقانونية [1].
المسؤولية الإدارية باعتبارها مسؤولية قانونية ونوع من أنواع المسؤولية القانونية تنعقد وتقوم في نطاق النظام القانوني الإداري ، وتتعلق بمسؤولية الدولة والإدارة العامة عن أعمالها الضارة ، لكن تحديد معناها بالمعنى الضيق وجزئيا ، بأنها " الحالة القانونية التي تلتزم فيها الدولة أو المؤسسات والمرافق والهيئات العامة الإدارية نهائيا بدفع التعويض عن الضرر أو الأضرار التي سببت للغير بفعل الأعمال الإدارية الضارة سواء كانت هذه الأعمال الإدارية الضارة مشروعة أو غير مشروعة وذلك على أساس الخطأ المرفقي أو الخطأ الإداري أساسا وعلى أساس نظرية المخاطر وفي نطاق النظام القانوني للمسؤولية الإدارية ومسؤولية الدولة [2].
الأصل أن مسؤولية السلطة الإدارية قائمة على الخطأ ، لأنه لا يمكن إجبار الإدارة على تعويض الضرر أو جبره إلا بناءا على خطئها ، غير أنه في بعض الحالات تكون بصدد مسؤولية بدون خطأ إما لكون الضرر صادر عن فعل الإدارة بالرغم من كونها لم ترتكب خطأ وتكون آنذاك بصدد وجود إخلال بمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة أو لكون نشاط الإدارة ذو مخاطر خصوصية والذي تنتج عنه أضرار لا يمكن أن تبقى دون تعويض ، فبما أن الإدارة تستفيد من ذلك النشاط فإنها في مقابل ذلك تتحمل التعويض عن الأضرار الناشئة عنه [3].
من الطبيعي أن تكون مسؤولية السلطة العامة مبدئيا مسؤولية خطيئة بمعنى لا تقوم إلا إذا كان الفعل الضار مخطئا فإذا كانت هذه المسؤولية (على أساس الخطأ) هي المسيطرة في القانون الإداري إلا أنه منذ سنة 1895 وجد نوع آخر من المسؤولية وهذه الأخيرة إنها تقوم من ولو غاب الخطأ ، وهي مسؤولية بقوة القانون بسبب الضرر الحاصل وهذا ما سنوضحه فيما يأتي من مباحث .
المطلب الثاني : خصائص المسؤولية الإدارية .
من أهم خصائص المسؤولية الإدارية أنها مسؤولية قانونية وكذا مسؤولية غير مباشرة ومسؤولية عن الغير ، وأنها مسؤولية ذات نظام قانوني مستقل ، كما أنها مسؤولية جدا ، ومسؤولية حديثة وسريعة التطور .
أولا :المسؤولية الإدارية مسؤولية قانونية .
-إن المسؤولية الإدارية وباعتبارها مسؤولية قانونية يتطلب لوجودها وتحققها اختلاف السلطات الإدارية والمنظمات والمرافق والمؤسسات العامة الإدارية صاحبة الأعمال الإدارية الضارة عن أشخاص المضرورين .
-كما يتطلب فيها أن تتحمل الدولة والإدارة العامة صاحبة الأعمال الإدارية الضارة عبء التعويض من الخزينة العامة بصفة نهائية للمضرور ويشترط في المسؤولية الإدارية توفر علاقة أو رابطة السببية القانونية - وفقا لنظرية السبب الملائم والمنتج - وحريات الأفراد العاديين[4].
-كما يتطلب في المسؤولية الإدارية - باعتبارها مسؤولية قانونية - عدم دخول مال في ذمة الأشخاص المضرورين من قبل الدولة والإدارة العامة بصورة مسبقة على النحو السابق بيانه في مجال تحديد مقومات وعناصر المسؤولية القانونية .
ثانيا :المسؤولية القانونية مسؤولية غير مباشرة .
المسؤولية القانونية المباشرة هي مسؤولية الشخص مباشرة عن أفعاله الشخصية الضارة في مواجهة الشخص المضرور ، مثل المسؤولية القانونية المنعقدة والقائمة على أساس خطأ شخص واجب الإثبات .
أما المسؤولية القانونية غير المباشرة فهي المسؤولية القانونية عن فعل الغير ، كما هو الحال في مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة ، ومسؤولية الدولة والإدارة العامة لأعمال موظفيها وأعمالها الضارة ، فالمسؤولية غير المباشرة أو المسؤولية عن فعل الغير تتحقق وتكون عندما يختلف شخص المسؤول المتبوع طبيعيا وفيزيولوجيا عن شخص التابع مع وجود رابطة أو علاقة التبعية بين التابع والمتبوع والدولة والإدارة العامة باعتبارها أشخاص معنوية عامة تفكر وتعمل وتتصرف دائما بواسطة أشخاص طبيعيين هم عمال وموظفو الدولة والإدارة العامة .
فالمسؤولية الإدارية هي دائما مسؤولية غير مباشرة ومسؤولية عن فعل الغير ، عكس المسؤولية المدنية التي قد تكون مسؤولية شخصية مباشرة وقد تكون مسؤولية غير مباشرة عن فعل الغير .
ثالثا :المسؤولية الإدارية ذات نظام قانوني مستقل .
-باعتبار أن المسؤولية الإدارية مسؤولية الدولة عن أعمالها التنفيذية الإدارية ، أي نظرا لكونها مسؤولية سلطة عامة ومسؤولية منظمات وهيئات ومؤسسات ومرافق عامة إدارية تعمل بهدف تحقيق المصلحة العامة للدولة والمجتمع في نطاق الوظيفة التنفيذية الإدارية للدولة ، فإن المسؤولية الإدارية باعتبارها حالة قانونية ونظام قانوني لابد أن تطبع وتسمع بهذه المعطيات والعوامل وتصبح لها طبيعة خاصة وخصائص ذاتية تستقل بها وتميزها عن غيرها من أنواع المسؤولية القانونية .
-باعتبار أن المسؤولية الإدارية مسؤولية قانونية عن إدارة عامة تتميز بعدة خصائص ذاتية أهمها أنها إدارة بيئوية تتأثر وتؤثر وتتفاعل مع المعطيات والعوامل والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والعلمية والحضارية والثقافية التي تشكل في مجموعها بيئة ومحيط النظام الإداري للدولة والإدارة العامة ، الأمر الذي يجعل حتما المسؤولية الإدارية تتميز بالواقعية والمرونة وشدة الحساسية للبيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية والعلمية والفنية المحيطة والمتفاعلة بالإدارة العامة في الدولة [5].
رابعا : المسؤولية الإدارية مسؤولية حديثة وسريعة التطور .
تمتاز المسؤولية الإدارية بأنها مسؤولية حديثة جدا ومتطورة بالقياس إلى أنواع المسؤولية القانونية الأخرى ، فالمسؤولية الإدارية أو مسؤولية الدولة عن أعمالها التنفيذية - الإدارية - .
باعتبارها مظهر وتطبيق من مظاهر وتطبيقات فكرة الدولة القانونية - لم تنشأ وتظهر إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كما سيتبين من خلال دراسة موضوع نشأة وتطور مسؤولية الدولة والغدارة العامة - ومازال النظام القانوني للمسؤولية في حالة حركة وتطور وبناء لحد الآن في بعض تفاصيله [6].
المطلب الثالث : علاقة المسؤولية الإدارية بالمسؤولية المدنية .
إن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية صلة وعلاقة وثيقة بالنظام القانوني للمسؤولية المدنية إذ إن لهذه العلاقة طبيعة خاصة تبعا لاختلاف النظام القضائي لكل منهما عن الآخر .
وعلى ذلك فإن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية وعلاقته بالنظام القانوني للمسؤولية المدنية تبدو جلية خاصة في النظام القانوني المبني على وحدة القضاء والقانون ، وكذا العلاقة بين النظامين في النظام المزدوج القائم على ازدواجية القضاء والقانون ، الأمر الذي يتطلب منا التعرض أولا إلى تأكيد مبدأ استقلالية النظام القانوني للمسؤولية الإدارية ومدى أفضليته عن النظام القانوني للمسؤولية القانونية المدنية لتطبيق ذلك على مسؤولية الدولة والإدارة العامة عن أعمالها من واجب دعوى التعويض ثم التطرق إلى تكييف طبيعة هذه العلاقة وبيان مظاهرها .
أولا : استقلالية النظام القانوني للمسؤولية الإدارية وأصالته عن النظام القانوني للمسؤولية المدنية
لما كان القانون الإداري في مجمله مجموعة قواعد استثنائية غير مألوفة منظمة لعلاقة الأفراد مع الإدارة ، فإن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية لا يعدوا أن يكون وليد هذه الفكرة كونه يتضمن على مجموعة من أحكام وقواعد قضائية خاصة واستثنائية غير مألوفة في صعيد قواعد النظام القانوني للمسؤولية المدنية .
ذلك أن فكرة التفرقة بين الخطأ الشخصي والخطأ الإداري المرفقي وكذا تفاصيل نظرية المخاطر كأساس قانوني للمسؤولية الإدارية وهو الأساس الحديث بعد نظرية الخطأ الذي تولدت بموجبه بدايات تبلور فكرة المسؤولية الإدارية بمعنى المسؤولية الموجبة للتعويض العادل والمنصف في حق المضرور كما سنرى في المبحثين الثالث والرابع من هذا الفصل .
فإذا كان الخطأ الشخصي الموجب للمسؤولية المدمية العادية يتميز بالثبات فإن الخطأ المرفقي أو الإداري هو خطأ متميز في ذاته متطور ومرن ، وتجدر الإشارة إلى أن تطوره ومرونته هي من الخواص المنبثقة عن القانون الخاضع له وهو القانون الإداري بالإضافة إلى أن تطور مقتضيات وظروف المؤسسات الإدارية تعني بلا شك تطور مبدأ المسؤولية الإدارية ونظامها القانوني الذي تخضع له .
أما بالنسبة لعنصر الضرر فإنه فيما يخص المسؤولية المدنية هو ضرر مادي مباشر من شخص (فرد) إلى آخر في شخصه أو ماله أو تبعته (من كان تحت رعايته) ، فإنه يبدو ضيق النطاق ، محدود المعالم مقارنة مع الضرر الذي تلحقه الإدارة بالأفراد سواء كانوا تابعين لها (خطأ وظيفي موجب للمسؤولية التأديبية) ، أو الخارجين عنها (منتفعين بنشاطها)، فإن هذا الأخير يعتبر واسعا سعة النشاط الإداري خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المسؤولية وفق الأساس القانوني الحديث ، (نظرية المخاطر) ، تجعل الإدارة مسؤولة عن الأضرار التي تلحق الأفراد سواء أخطأت أم لم تخطئ .
ورغم جملة هذه الاختلافات بين المسؤوليتين إلا أن نطاق التداخل بينهما واضح وجلي من حيث أن لكليهما (نظرية المسؤولية الإدارية والمسؤولية المدنية) يشكل أنواع المسؤولية القانونية بوجه عام .
كما أن كلا من النظامين القانونيين يترابطان ويتصلان ببعضهما في علاقة تكامل وتعاون حيث أن النظام القانوني للمسؤولية الإدارية باعتباره حديثا غير مكتمل المعالم فإنه يستعير من النظام القانوني للمسؤولية المدنية باعتباره نظاما راسخا بأحكامه وقواعده وتقنياته بعضا منها ، بل ويمكن القول كلها من أجل إقرار التعويض وأسسه التي تبنى عليه (خطأ ، ضرر ، علاقة سببية ) .
وخير دليل على ذلك هو أن البلاد التي تطبق نظام ازدواجية القضاء والقانون تخضع المسؤولية الإدارية إلى قواعد المسؤولية المدنية في بعض الحالات على سبيل الحصر استثناءا من الأصل وتختلف هذه الحالات من دولة إلى أخرى (الدول التي تطبق نظام الازدواجية) .
فحالات مسؤولية الدولة والإدارة العامة عن الحوادث والأفعال الضارة الناجمة عن المرافق والمؤسسات العامة الاقتصادية والاجتماعية وحوادث السيارات تخضع لأحكام وقواعد النظام القانوني للمسؤولية المدنية في أغلب دول الازدواجية القضائية ومنها الجزائر.
فعلاقة النظام القانوني للمسؤولية الإدارية والنظام القانوني للمسؤولية المدنية قائمة وموجودة باستمرار وهي علاقة تعاون وتكامل بصور مختلفة ومتطورة .
·وجهة نظر : وعلى ذلك يمكننا القول بأن الفرق الوحيد الذي أبرز اختلافا واضحا بين المسؤولية الإدارية والمدنية هو من وجهة نظرنا طبيعة الخطأ الموجب للضرر الذي على أساسه تعقد المسؤولية بعد ثبوت العلاقة السببية بينهما وهو الخطأ المرفق .
ثانيا : مدى صلاحية أحكام النظام القانوني للمسؤولية الإدارية .
ونقصد بذلك مدى صلاحية أحكام النظام القانوني للمسؤولية الإدارية وأسسه في رسم الطريق نحو تحقيق التكامل بين إشباع الحاجات العامة من جهة والمحافظة على سلامة الأفراد وكذا تعويضهم في حالة حدوث الضرر الموجب للمسؤولية خاصة إذا كان أخذنا بعين الاعتبار أن أحكام هذا النظام (المسؤولية الإدارية) حديث في نشأته حداثة القانون الإداري .
فهناك جانب من الفقه يرى بضرورة الجمع بين نظامي المسؤوليتين وتوحيد أحكامها عن طريق تطبيق نظام المسؤولية القانونية غير المباشرة في القانون المدني والمؤسسة على أساس نظرية الخطأ المفترض في المسؤولية الإدارية ، ذلك أنه وفق هذا الاتجاه إن أحكام المسؤولية على أساس الخطأ المفترض في النظام القانوني لها (المسؤولية) كفيل باستغراق وتنظيم حالات المسؤولية الإدارية .
وعلى ذلك فإن منظور هذا الاتجاه يرى بتطبيق معالم المسؤولية المدنية وأسسها على المسؤولية الإدارية لاسيما تلك المتعلقة بالمسؤولية الإدارية على أساس الخطأ فيطبق في هذا المجال أحكام مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة ، ومسؤولية متولي الرقابة عن أفعال من هم تحت رقابته ، ومسؤولية الحارس بكل ما فيها (حارس حيوان ، حارس عن البناء ... ) فكلها تطبق على حالات المسؤولية الإدارية وتقبل التطبيق عليها استغراقا لها .
·الرأي الراجح : (الاتجاه الثاني) .
إن الرأي أو الاتجاه القوي بخصوص هذه المسألة هو رأي أغلبية الفقهاء الفرنسيين في القانون العام وخاصة الإداري وذلك باعتبارها المصدر التاريخي لفكرة القانون والقضاء الإداري بصفة عامة والنظام القانوني الأصيل والمستقل والخاص للمسؤولية الإدارية الذي ذهب إلى ضرورة وضع نظرية متكاملة البناء ذات كيان مستقل اسمها نظرية المسؤولية الإدارية والتي تختلف في معالمها عن المسؤولية المدنية نظرا للطبيعة الخاصة والاستثنائية لها ، بحيث أنه وصلت نظرية المسؤولية غير التعاقدية للسلطة العامة إلى درجة كبيرة من التكامل .
لقد رفض القضاء الإداري الفرنسي من أول وهلة تطبيق القواعد الموضوعية للمسؤولية المدنية على النظام الذي يحكم المسؤولية الإدارية بحيث لا يمكن تطبيق المبادئ القائمة في التقنين المدني بخصوص المسؤولية عليها ذلك أن هذه الأخيرة (المسؤولية الإدارية) متميزة بذاتها وأحكامها ذلك أن هذه المسؤولية ليست عامة ولا مطلقة ولها قواعدها الخاصة التي تختلف وتتنوع باختلاف وتنوع حاجات المرفق العام ، وكذا ضرورة التوفيق بين حقوق الدولة وحقوق الأفراد في إطار تجانس المصلحتين العامة والخاصة .
·الرأي المأخوذ به :
رغم أن الكثير من الفقهاء ذهبوا إلى ضرورة اعتبار النظام القانوني للمسؤولية الإدارية مستقل من النظام القانوني للمسؤولية المدنية مقدمين في ذلك جملة من الحجج التي من بينها :
-أن القواعد والنصوص المدنية التي ستقاس عليها مسؤولية الإدارة عن أعمالها وموظفيها تنظم وفق علاقة تبعية بين المتبوع الذي هو الإدارة والتابع الذي هو الموظف ، رغم أن العلاقة بين الطرفين (الموظف والإدارة) ليست تعاقدية بتلك القائمة بين المتبوع والتابع ، وعلى ذلك فلا يمكن تطبيق قواعد القانون المدني على القواعد الإدارية .
-إن قواعد المسؤولية المدنية عاجزة عن مواجهة جميع مسؤوليات السلطة الإدارية وذلك في الحالات التي لا يمكن فيها إسناد الفعل الضار إلى الموظف أو إلى موظفين معينين حتى يمكن إعمال فكرة مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع ، وكل ذلك يؤدي إلى أفضلية القواعد الإدارية في موضوع المسؤولية خاصة أنها تأخذ وتوازن بين جميع الاعتبارات ، فإن الرأي الذي نأخذ به كوجهة نظر متواضعة هي الاتجاه الذي يرى بضرورة توحيد النظامين القانونيين للمسؤولية في قالب واحد يجسد التزاوج بينهما خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الناحية العمالية على الصعيد القضائي الإداري في كون القاضي وهو يفصل في النزاع يستقي حكمه من القانون المدني في ظل عدم وجود تقنين إداري مستقل ثابت ، بداية من أحكام المادة 124 من القانون المدني .
المبحث الثاني : نشأة المسؤولية الإدارية
ظلت الدولة بصفة عامة و الإدارة بصفة خاصة و لحقبة طويلة من الزمن غير مسؤولة عن أعمالها المختلفة، و كذا عن أخطاء موظفيها، و يعود ذلك إلى الفكرة التي كانت سائدة آنذاك و هي أن الدولة شخص معنوي مجسدة في شخص الملك الذي لا يخطئ أبدا، و كذا إلى فكرة السيادة باعتبار أن المسؤولية التزام و هو ما يتناقض مع السيادة في شكلها التقليدي بما تنطوي عليه من سمو و إطلاق، إلا انه في نهاية القرن 19 و بداية القرن 20 بدأ المفهوم المطلق لعدم مسؤولية الدولة يندثر خاصة مع اتساع مجال تدخل الدولة في جميع المجالات مما ينتج عنه تعدد الأضرار على الأشخاص و الأموال، وبدأت فكرة المسؤولية تشق طريقها نحو التطبيق، وسنتطرق خلال هذا المبحث إلى المسار التاريخي الذي مرت به فكرة المسؤولية الإدارية في الأنظمة القانونية الكبرى في العالم بداية بالنظام الأنجلوسكسوني الذي تمثله إنجلترا ’ ثم النظام اللاتيني الذي تمثله فرنسا ، لنصل في الأخير إلى فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر ، وذلك وفق ثلاثة مطالب على الترتيب .
·المطلب الأول : نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام لأنجلو سكسوني .
·المطلب الثاني :نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام القانوني اللاتيني .
·المطلب الثالث: نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر .
المطلب الأول : نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في النظام لأنجلو سكسوني .
كانت بريطانيا في موضوع المسؤولية الإدارية تعتنق مبدأ أساسي هو عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها بصورة مطلقة ثم حاول الفقه و القضاء ثم المشرع تطليق هذا المبدأ عن طريق اتخاذ جملة من الاستثناءات الواردة عليه (عدم مسؤولية الإدارة) أين تقرر مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها في بعض المرافق العامة دون غيرها، ثم وسعوا نطاقها,ذلك أن عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها و كذا أعمال موظفيها قد بينت على عدة مبررات منها القاعدة الدستورية القائلة بأن "الملك لا يخطئ"أين اعتبر الملك و بالتالي تسأل عن أعمالها الغير مشروعة الصادرة في حق الغير و تمتد هذه الحماية إلى موظفيها فلا يسألون حتى في ذمتهم الخاصة لأنهم في خدمة جناح الملك الذي لا يخطئ و بالتالي فهم جزء منه و أداته في أعماله حتى و إن كانت غير مشروعة، فالمفهوم الذي كان سائدا آنذاك هو امتزاج و اتحاد الدولة في شخص الملك إذ لم يكن ينظر إليها كوحدة قانونية قائمة بذاتها و مجردة,لها الشخصية المعنوية بل هي في نظر القانون ليست إلا الملك و تابعيه , فالقول بمساءلة الدولة و موظفيها عن الأضرار الناجمة عن أعمالهم أثناء أدائهم لخدماته الوظيفية ما هو إلا مساءلة للتاج(الملك) عن أخطائه الشخصية وهو مالا يسمح به و لا تقرره القاعدة المذكورة و الراسخة في القانون الانجليزي[7] ، بل إن الأمر أكثر من ذلك حيث كان لا يسمح بالرجوع على الموظف الذي سبب خطأه الشخصي ضررا حتى و إن كانت هذه المسالة مسألة شخصية في ذمته المالية الخاصة وعلى ذلك يمكن اعتبار الموظف وفق هذه النظرة الإله صغير،الأمر الذي يعقد الأمور و يشل حركة الإدارة بصفة خاصة و الدولة بصفة عامة في غياب الرعاية الإلهية، ثم من أجل تفادي هذا نظرا للقضاء الانجليزي و معه الفقه إلى مبدأ عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها نظرة الرفض لقسوة هذا المبدأ فأخذ يحقق منه محاولا التلطيف من حدة هذه القسوة ، وعلى ذلك قرر في بداية الأمر مسؤولية الموظف الشخصية استنادا إلى السند و المبرر الفقهي الانجليزي في تكييفه لطبيعة العلاقة القانونية التي تربط الموظف لأنها خارجة عن حدود عقد الوكالة[8] كما حمل القضاء الانجليزي الإدارة التدخل في تحمل التعويض نيابة عن الموظف في بعض الأحيان رغم أن هذا التدخل لا يعتبر و لا يشكل مسؤولية الإدارة بالمعنى القانوني للمسؤولية لأنها في هذه الحالة تتحمل عبء التعويض المحكوم به على الموظف رحمة و شفقة عليه وليس التزام عليها. وعلى ذلك يمكننا القول:" بأن الأساس التاريخي للمسؤولية الإدارية في انجلترا خاصة بني على الفكرة التيوقراطية القائم على أساس تأليه الملك و بالتالي عصمته من الخطأ و في الوقت الذي أحس الأفراد بخطورة الموقف من خلال هذا المبدأ حتى مع جملة التغييرات الشكلية الطفيفة عليه ة بقي الأمر خطيرا بحيث أصبح الأفراد متخوفين عن ضياع مصالحهم في إطار استمرار الشعور بعدم الاطمئنان.مما أدى إلى تطور فكرة الفقه و القضاء إلى الضرورة تكوين لجنة قانونية عام 1921 لبحث مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيهاو قد رفعت هذه اللجنة مذكرة بمشروع قانون 1927 يقيم هذه المسؤولية لكن البرلمان الانجليزي رفض إقراره مستندا في ذلك إلى أن إقرار هذا المبدأ يعرض الثروة العامة للضياع نظرا لما يحكم به للأفراد من تعويضات مما يؤثر على مكانة الدولة و مقدرتها المالية،إلا أن المشروع ما لبث أن أحس بخطورة الموقف و عدم عدالة الوضع فوضح قانون 1947 قانون الإجراءات الملكية الذي قرر نهائيا مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها صراحة و أصبح ساري المفعول في مطلع 1948[9].
المطلب الثاني:نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في من النظام القانوني اللاتيني .
لقد أجمعت مختلف الدراسات في القانون الإداري أن فكرة المسؤولية الإدارية ارتبطت في نشأنها بنشوء القانون الإداري الذي ظهر في فرنسا ، وهي مرتبطة بتاريخها و نظام الحكم فيها[10].
وكغيرها من الدول القديمة خضعت فرنسا لمقولة " الملك لا يسيء صنعا " و أنه امتداد لإرادة و ظل الله في أرضه، و هو ما جعله يتمتع بسلطة مطلقة في تسيير شؤون الدولة و عدم خضوعه للرقابة بما فيها الرقابة القضائية، و اعتباره مصدرا للعدالة، و التكفل شخصيا بالفصل في أي منازعة، و كذا وقف تنفيذ الأحكام أو إصدار حق العفو فيها[11]، و بانتقال فرنسا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 من النظام الملكي إلى الجمهوري، و ظهور نظرية مونتسكيو المتعلقة بالفصل بين السلطات، ظهر جدل فقهي كبير حول عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية .إذ أن مناقشة تصرفات الإدارة أمام القضاء، و إعلان مسؤوليتها و إلزامها بالتعويض عن الأخطاء التي يرتكبها موظفوها، يؤدي إلى تدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التنفيذية على خلاف ما يقضي به مبدأ الفصل بين السلطات، و لم يكن الاختلاف قائما حول المبدأ و إنما حول تفسيره، إذ يأخذ البعض بالفصل المطلق بين سلطات الدولة، و هو ما كان يميل إليه رجال الثورة الفرنسية متأثرين في ذلك باعتبارات تاريخية تتمثل في تعسف محاكم النظام القديم.
في حين كان الاتجاه الغالــب و الواقع العملي يرجح فكرة الفصل النسبي لما يسمح به من وجود نوع من الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة للحيلولة دون استبداد كل سلطة باختصاصاتها[12] إلا أن النظام القانوني الفرنسي كان مبنيا في بداياته على فكرة أساسية مناطها عدم تدخل السلطة القضائية في نشاط الإدارة ’ حيث رأت السلطة الفرنسية أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعزم الإدارة القيام بها لذلك عملت على إبعاد منازعات الإدارة عن ولاية المحاكم العادية ’ و تجسيدا لهذه الأفكار صدر قانون16 -24 سنة 1790 الذي نص في المادة 13 منه " إن الوظائف القانونية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و أن القضاة لا يمكنهم تعطيل أعمال الإدارة بأي طريقة كانت أو مقاضاة أعوانها من اجل أعمال تتصل بوظائفهم و أن كل خرق لهذا المنع يعتبر خرقا فادحا للقانون"
وتأكد هذا المبدأ مرة أخرى بالقول : " أن القضاة لا يمكنهم التعدي على الوظائف الإدارية أو محاكمة رجال الإدارة عن أعمال تتصل بوظائفهم ’ ويحضر على المحاكم حضرا مطلقا النظر في أعمال الإدارة أيما كانت هذه الأعمال"[13]
و قد اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أن مقاضاة الإدارة أو أعوانها أمام القضاء يؤدي إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام، فمثلا إذا تمت مقاضاة الإدارة حول نزع الملكية من أجل المصلحة العامة فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تعطيل المشاريع التي تم من أجلها نزع العقار من مالكه .[14]
وتطبيقا لهذا القانون فإن المنازعات التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها فإنها تحال مباشرة على الملك ’ أما المنازعات التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها فقد اختص بها حكام الأقاليم.
ومن هنا اجتمع في الإدارة صفة الخصم و الحكم لذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة الإدارة القاضية[15] .
و هو ما أعاق تحقيق و تكريس مبدأ الفصل بين السلطات، إذ أنه منع على السلطة القضائية البث في القضايا الإدارية في حين منح للسلطة الإدارية سلطة الفصل في منازعاتها و أمام رفض الفقهاء و القضاء لتمتع الإدارة بهذا الاختصاص الممتاز، تم فصل الإدارة العاملة عن الإدارة القاضية، عرفت فرنسا تحولا جذريا في مجال منازعات الإدارة إذ بصدور دستور السنة الثامنة من عهد نابليون بونابرت نصت المادة 52 منه على إحداث مجلس الدولة كما تم إنشاء مجالس المحافظات في باقي الأقاليم , و أرجع الكثير من الكتاب سبب إنشاء هذه الأخيرة إلى سيل الطلبات المرفوعة ضد الإدارة آن ذاك [16].
إلا أن قرارات المجلس لم تكن سوى آراء و مشاريع قرارات معلقة على مصادقة رئيس الدولة، إذ أنها لم تكتسي الطابع القضائي، و لم تكن شاملة و لا نهائية، كما أنه لم يعتمد حال فصله في المنازعات على قواعد خاصة تطبق فقط على المنازعات الإدارية، و إنما طبق قواعد القانون الخاص[17].
بل أن جملة القرارات الصادرة عن المجلس في هذه المرحلة لم تخرج عن كونها مشاريع قرارات بخصوص منازعات معينة وجب أن ترفع أمام القنصل العام باعتباره رئيس الدولة الذي كان له وحده حق المصادقة عليها أو رفضها.
فولاية المجالس لم تكن كاملة و شاملة و أحكامه لم تكن نهائية ’ أما مجالس الأقاليم فقد كانت قراراتها قابلة للطعن أمام مجلس الدولة الذي يبدي بشأنها أيضا الرأي ليرفع فيما بعد أمام القنصل العام الذي إن شاء أضفى عليها الصبغة التنفيذية لها و إن شاء رفضها [18].
و على ذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة القضاء المحجوز وذلك لأن الفصل في أي منازعة إدارية كان موقوفا على مصادقة و موافقة الرئيس ، و موافقته بالضرورة ستكون وفق ما يخدم مصالحه الشخصية .
كما نصت المادة 75 من دستور السنة الثامنة من الثورة الفرنسية لسنة 1800 على ضرورة استئذان مجلس الدولة قبل رفع قضايا التعويض على موظفي الحكومة بسبب أعمالهم ووظائفهم[19].
إلا أن هذه المرحلة لم تدم طويلا إذ صدر بتاريخ 24/05/1872 قانونا اعترف لمجلس للدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية دون الحاجة لمصادقة السلطة الإدارية على قراراته ’ ولم تعد الأحكام تصدر باسم رئيس الدولة بل باسم الشعب الفرنسي ’ و منذ دلك التاريخ أصبح لمجلس الدولة صفته كجهة قضائية عليا بأتم معنى الكلمة ’ حيث تم الفصل بين القضاء الإداري و القضاء العادي [20].
وعلى ذلك فإن الوظيفة القضائية لمجلس الدولة تتمثل في صلا حيته كمحكمة أول درجة للنظر في المنازعات الواردة على سبيل الحصر ومنها :
*الطعون الخاصة بتجاوز السلطة ، أو دعاوى الإلغاء الموجهة ضد المراسيم اللائحية أو الفردية .
*المنازعات المتعلقة بالمراكز الفردية للموظفين المعينين بمرسوم .
*الطعون الموجهة ضد أعمال إدارية بتجاوز نطاق تطبيقها دائرة اختصاص محكمة إدارية واحدة .
*كما ينظر المجلس في المنازعة الإدارية باعتباره جهة إستئنافية بخصوص الطعون المرفوعة ضد أ حكام المحاكم الإدارية الإقليمية .
*إلا أن الصعوبة تكمن خاصة في كيفية تعليل عدم صلاحية قواعد القانون الخاص لأن تحكم منازعات النشاط الإداري[21].
وبصدور قرار بلانكو الشهير الذي يعتبر نواة القانون الإداري تجسدت فكرة مسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها
والذي تتمثل وقائعه فيما يلي :" تعرضت بنت صغيرة تدعى إيجيتر بلانكو لحادث تسببت فيه عربة لوكالة التبغ ، و التي كانت تنقل إنتاج هذه الوكالة من المصنع إلى المستودع .
قام ولي البنت برفع دعوى تعويض عن الضرر المادي الذي حصل لابنته أمام المحكمة العدلية أو محكمة القضاء العادي على أساس أحكام القانون المدني الفرنسي .
قامت وكالة التبغ اعتبرت أن النزاع يهم الإدارة و أن مجلس الدولة هو صاحب الاختصاص بالنظر في الدعوى [22].
أحيل الأمر على محكمة التنازع بتاريخ 08 /02/1873 ’ أجابت كما يلي:
" حيث أن المسؤولية التي يمكن أن تتحملها الدولة بسبب الأضرار التي يمكن أن يلحقها أعوان المرفق العام بالأفراد لا يمكن أن تخضع لأحكام القانون المدني الذي يضبط علاقة الأفراد فيما بينهم .
-حيث أن هذه المسؤولية ليست عامة أو مطلقة بل لها قواعدها التي تتغير حسب مقتضيات المرفق العام و ضرورة التوفيق بين مصلحة الدولة و حقوق الأفراد ....و بالتالي السلطة الإدارية وحدها المختصة بنظر النزاع[23].
-ومنذ تلك اللحظة أسس مجلس الدولة قراراته على روح القانون العام أحيانا و علي حسن سير العدالة وكذا
-المرافق العامة من جهة أخرى .
وعلى ذلك نستنتج : أ ن المسؤولية الإدارية كانت فكرة نظرية تجسدت على الصعيد العملي بفضل قرار بلانكو الشهير" .
المطلب الثالث:نشأة فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر
لدراسة فكرة مسؤولية الإدارة عن أعمالها و موظفيها ونشأتها في الجزائر يجدر بنا التطرق إلى ثلاثة مراحل أساسية بداية من مرحلة ما قبل الاحتلال ’ أثناء الاحتلال ’ لنصل في الأخير لدراسة مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها بعد الاستقلال نظرا لما مرت به الجزائر تاريخيا ، وذلك وفق ثلاثة فروع على الترتيب .
·الفرع الأول : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر قبل الاحتلال
·الفرع الثاني : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر أثناء الاحتلال
·الفرع الثالث : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر بعد الاستقلال .
الفرع الأول : فكرة المسؤولية الإدارية في الجزائر قبل الاحتلال
لإبراز فكرة المسؤولية في هذه المرحلة ينبغي أن نتطرق لتاريخ الجزائر القانوني و بمعنى أدق التاريخ القانوني الإسلامي الذي كان مطبقا في الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي لها إلى جانب العادات الوطنية التي أثرت فيها أحكام الشريعة الإسلامية حتى أصبحت تشكل عنصرا من عناصرها الجلية [24]" .
وحيث أنه توجد في الشريعة الإسلامية قواعد قانونية عامة تقرر رفع الأضرار عن الرعية مهما كانت الجهة التي تسببت في إحداثها ، ومن هذه القواعد قوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ."
وهذه القاعدة الشرعية العامة التي تفيد أن الضرر يزال و أن الظلم يرفع ولو كان من الوالي بل ولو كان من الخليفة الأعظم الذي اختير اختيارا شرعيا .
و يعد المذهب الإسلامي أول مذهب أقر المسؤولية بصفة عامة و الإدارية بصفة خاصة عن الأضرار الناتجة عن السلطة التنفيذية الممثلة في الخلفاء و أعوانهم أو السلطة القضائية الممثلة في القضاة و معاوينهم ، و ذلك تطبيقا لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تحث على رفع الأضرار عن الرعية و مساءلة مسببيها مهما كانت الجهة التي صدر عنها الضرر .
و من هذه المبادئ و القواعد " قوله صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "
وفي الدولة الجزائرية فقد حذا حكامها حذو حكام الدولة الإسلامية في عهدها الأول فكان يطبقه على إطلاقه وهذا أمر منطقي كون الدولة الجزائرية دولة مسلمة [25].
إلا أنه و مع التطور التاريخ الذي عرفته الأمة الإسلامية و غلبة الطابع الدنيوي أصبح من الضروري إيجاد نظام قانوني و قضائي يتولى تطبيق مبدأ المسؤولية و تعويض المتضررين عن الأضرار الناجمة عن أعمال الدولة أو موظفيها، فظهر ديوان المظالم كجهة قضائية إدارية بالمفهوم الحديث تتولى مقاضاة الولاة رجال الدولة الذين لا يمكن للقضاء العادي مقاضاتهم ، و قد باشر الخلفاء الراشدون النظر في المظالم بعد الرسول صلى الله عليه و سلم بأنفسهم كما فعل عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز و أو بواسطة معاونيهم.
و قد كرسوا هذا المبدأ بإعمال قاعدة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه في نطاق المسؤولية المدنية و التي يتطلب قيامها ثلاثة شروط، علاقة التبعية بين التابع و المتبوع، خطأ التابع و العلاقة السببية بين خطأ المتبوع و ما استخدم التابع من أجله.
و إذا ما بحثنا عن تطبيق مبدأ المسؤولية في الدولة الجزائرية فإننا نجد أن أمراء بني الأغلب و الفاطميين و سلاطين الموحدين و المرابطين و بني مرين و بني زيان يجلسون لنظرا لمظالم و يعتبرونها من صلب وظيفة الإمارة.
و قد أبقي على ولاية المظالم في عهد الأتراك مع بعض الاختلاف ، و في عهد الأمير عبد القادر طبق مبدأ مسؤولية الدولة بصفة واسعة و موضوعية ، إذ حذا حذو الخلفاء الراشدين و تولى النظر بنفسه في ولاية المظالم و حرص على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، إذ كان يفصل في التظلمات المرفوعة إليه ضد موظفي الدولة و يتولى معاقبتهم مهما سمت درجة وظائفهم و مراكزهم، و يصدر في ذلك أحكام نهائية غير قابلة للطعن فيها [26].
الفرع الثاني: المسؤولية الإدارية في عهد الاحتلال
لما كان الاحتلال الفرنسي للدولة الجزائرية غير مشروع بكافة المقاييس، ذلك أنه كان يهدف لتحقيق مصالحه اللامشروعة على حساب سيادة الدولة الجزائرية من جهة وحقوق وحريات الشعب ولاسيما مقدساته من جهة أخرى .
كان حتميا عليه أن تضع مبدءا أساسيا هو عدم مسؤوليتها عن الأعمال الضارة التي تمس بالجزائريين فقط .
وهو ما يتعرض مع مبدأ المسؤولية الإدارية وفق النظرية الغربية للمسؤولية الإدارية القائمة على تطبيقها بصورة متكاملة شاملة و ليست جزئية نسبية
حيث أمتد تطبيق مبدأ المسؤولية الإدارية إلى الجزائر وفق نفس القواعد و الأسس المقرة لمسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها و مرت بذات التطورات التي مر بها القضاء الإداري الفرنسي ، حيث أقام النظام القضائي الفرنسي في الجزائر جهات قضائية خاصة للفصل في المنازعات الخاصة بمسؤولية الإدارة عن أعمالها و موظفيها ، إذ أنشأت بمقتضى المرسوم المؤرخ في 30/09/1953 محاكم القضاء الإداري الثلاث في الجزائر وهي : محكمة الجزائر ، قسنطينة ووهران التي كانت تفصل في المنازعات الإدارية و التي من جملتها المنازعات الخاصة بالتعويض الإداري تحت إشراف مجلس الدولة الفرنسي بباريس كجهة قضائية للاستئناف و النقض [27].
وعليه يمكننا أن نستنتج بأن تطبيق مبدأ المسؤولية الإدارية في الجزائر مقصورا على الفرنسيين والأجانب المستوطنين في الجزائر، الأمر الذي من شأنه أن يجعل هذا المبدأ نسبي طالما أن تطبيقه لم يشمل الجزائريين مما يفتح باب التعسف تجاههم ، وكل ذلك بهدف إرغامهم على الاعتراف بفرنسية الجزائر"