حقوق الإنسان بين العالمية والعولمة
يحتفل العالم أجمع في اليوم العاشر من شهر الكانون ( ديسمبر ) من كل عام باليوم العالمي لحقوق الإنسان . وفي هذه الأيام كثر الحديث عن حقوق الإنسان وخاصة منها المرتبطة بالحريات الأساسية للإنسان في عالم يموج بالاضطرابات وانتهاك حريات الإنسان ، وإذا كان العالم المتقدم صناعيا واقتصاديا قد حقق لأبنائه كافة الحقوق الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية ناهيك عن الحقوق المدنية والسياسية بل وأخذ يهتم بحقوق الحيوان أيضا . فمن المفارقات العجيبة أن هذا العالم المتقدم الذي بنى تقدمه وازدهاره على تعاسة وتخلف بقية شعوب العالم.
فأين حقوق الإنسان التي تنادي بها الأمم المتحدة . ؟ أليست الدول المتقدمة هي التي تشجع الحكومات الديكتاتورية على انتهاك حقوق إنسان العالم الثالث ، ! بل وبمساعدتها تنشيء ، السجون والمعتقلات العلنية والسرية لخرق حقوق الإنسان وتعذيب كل من يطالب بحقه في الحياة الكريمة؟! أليس من المضحك أن تقوم بهذه الأعمال بدعوى أنها تحرم التعذيب على أراضيها . طائرات خاصة تنتقل من بلد إلى بلد في مهمات قذرة أقل ما يقال عنها إنها تخرق أبسط حقوق الإنسان بدعوى أنها مضطرة إلى العلم المسبق فيما يتعلق بالإرهاب ولأجل هذا أقامت معتقل غوانتنامو لممارسة أنواع من التعذيب على المعتقلين بدعوى الحصول على معلومات تحسبا لعمليات إرهابية ! ومعنى ما سبق أن حقوق الإنسان يجب أن تحترم في الدول المتقدمة . ومن حق أبناء هذه البلدان أن ينعموا بحقوقهم الإنسانية ، أما إنسان العالم الثالث فلا ضير أن تنتهك حقوقه الإنسانية وتمتهن ، علما بأن الإنسان هو الإنسان أينما حل وارتحل ، مصداقا لقوله تعالى : " ولقد كرمنا بني آدم ". وهذا التكريم عام لكل إنسان ، هذا التكريم يتطلب احترام آدمية الإنسان وحقوقه التي لا تقبل الشرائع بانتهاكها . فمن واجب مجتمعات العالم الثالث بكل مؤسساتها الوطنية أن تعمل جاهدة على إبراز هذه الحقوق وتأكيدها ، بل ويجب أن تبني العلاقات الدولية على مبدأ احترام حقوق الإنسان ، واعتباره مقياسا للتقدم والازدهار لأي مجتمع . ويقودنا هذا بالطبع نحو التركيز على خطاب حقوق الإنسان وعالميته.
وفي هذا الإطار يجب التأكيد على أن العالمية ينبغي أن تبقى لصيقة بحقوق الإنسان باعتبارها صفة أصلية فيها . فإذا كان للإنسان حقوق مدنية وسياسية فإن له أيضا حقوقا اقتصادية واجتماعية وثقافية.
وقد ظهر هذا الاتجاه أثناء انعقاد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان عام 1993 هذا المؤتمر الذي شارك فيه ممثلون عن 172 دولة إلى جانب مراقبين عن 95 منظمة تهتم بحقوق الإنسان في بلدان مختلفة إلى جانب ما يقرب من 840 منظمة غير حكومية أو جمعية أهلية.
وقد أكدت أغلبية الوفود المشاركة على عالمية حقوق الإنسان الأساسية وعلى ضرورة احترامها من قبل جميع الدول والبلدان غنيها وفقيرها.
ومنذ ذلك الحين اختفى ذلك الجدل بين أنصار المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، فالدول الرأسمالية كانت تتبنى نمط الديمقراطية الليبرالية التي تهتم بالفرد وحريته بل وتقدسها ومن ثم فقد اهتمت بحقوق الإنسان وخاصة منها الحقوق المدنية والسياسية ، كالحق في الحياة ، وعدم الخضوع للتعذيب . وحق التجمع وإنشاء الأحزاب ... ألخ.
أما الدول الشيوعية فكانت تتبنى نمط الماركسية التي تجعل حقوق الإنسان حقا شرعيا واجبا لكل من يعمل وينتج فقط في المجتمع ومن ثَمّ فقد اهتمت بحقوق الإنسان وخاصة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع عدم إعطاء الأهمية للحقوق المدنية والسياسية.
هذا التوجه جعل الدول الرأسمالية تحرص على إبراز انتهاك المعسكر الشيوعي للحقوق المدنية والسياسية للبلدان والشعوب التي خضعت للنظام الشيوعي ، وكمثال على ذلك ما شهده النظام الستاليني الذي حكم الاتحاد السوفيتي ، منتهكا حقوق الإنسان كافة أفرادا وجماعات . بل إن هناك شعوبا بأسرها طالها جنون تعسفه الملغي لحق الوجود ، فقد نفى شعب القدم التتري إلى سيبيريا بفئاته كلها من الطفل الرضيع إلى العجوز ، وتوازى مع هذا الترحيل حملة إعدامات واسعة كما حكي ذلك الشاعر والكاتب الروسي " خارم شالاموف " الذي قضى عشرين عاما في جحيم المعتقلات الروسية.
وإذا كانت الدول الرأسمالية متهمة بانتهاكها للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعوب فإن خير مثال نسوقه شاهدا على ذلك شركاتها المتعددة الجنسيات التي تخرق حقوق الإنسان ، ومع توسيع دلالات حقوق الإنسان ومسؤولياتها ومجالات تطبيقها في ظل المستجدات العالمية ، ولعل هذا ما أثار ضرورة خضوع هذه الشركات لقوانين حقوق الإنسان ، وخاصة من حيث معايير حماية البيئة ومعايير العمل وحقوق العمال والصحة والسلامة المهنية ومعايير المسؤولية الاجتماعية : وهو ما تحث عليه المبادرة الحديثة للأمم المتحدة للتضامن العالمي وتضطلع بها اللجنة الفرعية للأمم المتحدة الخاصة بنشر حقوق الإنسان وحمايتها : لذا فإن الأمل معقود على المجلس القومي لحقوق الإنسان في ممارسته مهامه المتعددة في ظل توسيع مسؤوليات هذه الحقوق وضرورة تبنيه وتفعيله ودعمه للأنظمة التشريعية التي تمنع تورط عالم الأعمال والتجارة في انتهاكات حقوق الإنسان.
لقد كان دعم حقوق الإنسان جزءا لا يتجزأ على الدوام من مهمة الأمم المتحدة المجسدة في كل من ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان . ولكن طيلة الحرب الباردة شوه الخطاب السياسي مناقشة مفهوم حقوق الإنسان من حيث علاقته بالتنمية.
فالحقوق المدنية والسياسية من جانب والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جانب آخر / لم تكونا تعتبران جانبين لعملة واحدة ، بل كانتا تعتبران رؤيتين متنافستين لمستقبل العالم.
وقد تجاوز العالم الآن تلك الإشكالية وأصبح يعترف بجميع مكونات حقوق الإنسان المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحق كل الناس في الحصول عليها ، فالحصول على التعليم الأساسي والرعاية الصحية والمأوى والعمل لا تقل أهمية عن الحقوق السياسية والمدنية.
وهكذا سارت الدول الرأسمالية في اتجاه عولمة رؤيتها الخاصة للديمقراطية وحقوق الإنسان تحت تغيير موازين القوى وإرادة الهيمنة مع بداية الألفية الثالثة ، وبتعبير آخر سيادة " حكم القوي على الضعيف " ولعل منظر العولمة " فوكوياما " لم يكن ليجرؤ أن يبشر المنتمين إلى النموذج الديمقراطي الليبرالي بأن نهاية التاريخ ستكون عند سيادة القيم الرأسمالية في الديمقراطية واقتصاد السوق لولا انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي.
وهذا الطرح يرى أن الديمقراطية هي الشكل الوحيد لنظام الحكم السياسي الذي يتوافق مع احترام جميع الفئات الخمس لحقوق الإنسان المتمثلة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية ، وهذه الحقوق تتطلب آليات تكفل الحماية من الدولة ، فالديمقراطية المعولمة لها سمات أربع نسوقها على النحو التالي :
1. إجراء انتخابات حرة ونزيهة يسهم في إعمال الحق في المشاركة السياسية.
2. السماح بوجود وسائط إعلام حرة ومستقلة يسهم في إعمال الحق في حرية التعبير والفكر والضمير.
3. فصل السلطات بين فروع الحكومة يساعد على حماية المواطنين من انتهاكات حقوقهم المدنية والسياسية.
4. التشجيع على وجود مجتمع مدني مفتوح يسهم في إعمال الحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات والانضمام إليها ، فوجود مجتمع مدني مفتوح يضيف بعدا تشاركيا مهما إلى جانب فصل السلطات من أجل تعزيز حقوق الإنسان ومعلوم أن هذه الحقوق يعزز كل منها الآخر حيث يكون إحراز تقدم فيما يتعلق بأحدها مرتبطا عادة بإحراز تقدم في الحقوق الأخرى.
ولو نظرنا إلى حقيقة القيم التي يراد عولمتها من الناحية العملية لوجدنا أنفسنا أمام خطاب يهدف إلى تحقيق رأسمالية حقوق الإنسان في ظل ظروف واقع يتسم بالفوضى والاختلال إلى جانب سيادة القوة واستخدامها بإفراط لإخضاع النفوس والشعوب فباسم حقوق الإنسان احتل العراق وانتهكت حرمات مواطنيه.
وعلى العموم فإن المستفيدين من العولمة وبالذات عولمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي يطمحون إلى استمرار استنزاف مقدرات العالم الثالث لضمان تفوقهم الاقتصادي والعسكري وبالتالي ضمان سلامة مصالحهم التي تبقى مكفولة في ظل الأنظمة التابعة وخاصة تلك التي تطبق النموذج الديمقراطي الليبرالي.
وبالتالي يسعون إلى عولمة الفهم الرأسمالي الغربي لحقوق الإنسان بينما نحن نسعى إلى عالمية حقوق الإنسان وعدم تجزئتها فالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية جميعها ضرورية لكي يحيا الإنسان حياة كريمة على أساس أن حقوق الإنسان هي حقوق لجميع الأشخاص بحكم إنسانيتهم المشتركة . لكي يعيشوا في حرية وكرامة.
مصادر البحث :
1. نجاح قدور : مستقبل البلدان العربية في ظل العوملة - كتاب تحت النشر.
2. فوزي فهمي : تخريب العام - النهضة العامة للكتاب - القاهرة 2004 .
3. تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2000 .
4. سعد الدين محمد : حقوق الإنسان في ضوء التجليات السياسية للعولمة - صحيفة الزحف الأخضر العدد ( 4580 ) . 16 . 8 . 2005 ف.