الجمهـوريــة الجزائريــة الديمقراطيــة الشعبيــة
وزارة العـــــدل
المدرســــة العليــــا للقضـــاء
الدفعـــة السادســة عشـــر
2005/2008
مذكرة التخرج لنيل اجازة المدرسة العليا للقضاء
من إعداد الطلبــــة القضـــاة:
مقـــدمـــة
إن القانون ليس مجرد شكل يصاغ إنما هو تعبير عن الواقع الاجتماعي والإنساني، هذا الواقع الذي يكون مضمون القاعدة القانونية والتي يعمل القاضي في إطارها على محاولة التوفيق بين الواقع وهذه القاعدة.
والقواعد القانونية نوعان منها الجامدة وهي تلك التي لا تقبل التغير ولا التطور ولا الانتقال من حال إلى حال، ومنها المرنة وهي التي يضعها المشرع هاديا للقاضي يسترشد بها فيما يعرض عليه من القضايا ولا يتقيد فيها بحل واحد بل تتغير الحلول وتتفاوت بتغير الظروف وتفاوت الملابسات، فالقاضي وإن كان ليس مشرعا إلا أن له من سلطان التقدير ما يسير له أن يجعل أحكام القانون متماشية مع مقتضيات الظروف، فتكون أحكام القانون بذلك آداة طيعة في يد القاضي يطور بها القانون تطويرا مستمرا ويواجه بها ما يتغير من ملابسات وأحوال، فهو يفصل في المنازعات بما يتفق وصحيح القانون دون أن تصل هذه الحرية إلى حد وضع نصوص القوانين لأن هذا من صميم اختصاص المشرع وحده، فالقاضي حينما يصدر أحكامه فإنها تصدر منه وفقا لسلطته القضائية ومعنى ذلك انه لا يقوم بعمل المشرع فهو لا يضع قاعدة قانونية جديدة وإنما يقوم بعمل تقديري بهدف تحديد مضمون إرادة قانونية قائمة وهو بهذا النشاط يرمى إلى تحقيق غاية العمل القضائي وهي المصلحة العامة وإلى إزالة التجهيل الذي أحاط بالقاعدة القانونية وما تنظمه من مراكز قانونية.
ولابد من الإشارة إلى أن القاعدة القانونية ليست هي موضوع السلطة التقديرية للقاضي، وإنما ينصب التقدير على مفترضات تطبيقها وعلى الأثر القانوني الذي تنظمه، ففي كل الحالات التي يكون فيها للقاضي حرية تقدير الحل الموضوعي الذي يتبناه فإننا نكون بصدد ما يسمى السلطة التقديرية، وتنعدم هذه الأخيرة في الأحوال التي يكون فيها نشاط القاضي منظما من قبل القانون في جميع عناصره.
وعلى الرغم من أن السلطة التقديرية للقاضي أصبحت من المسلمات المفروضة في مجال العمل القضائي حيث اعترف كل من المشرع والفقه والقضاء بذلك، إلا أنه ورغم هذا الواقع هناك اتجاه فقهي وقضائي حديث يدعو إلى الحد من استعمال قاضي الموضوع لسلطته التقديرية، لأن سلطة هذا الأخير أثناء مباشرته لولاية القضاء ليست سلطة تقديرية وإنما هي سلطة مقيدة بغاية العمل القضائي، كما أن إباحة استعمال هذه السلطة التقديرية سيؤدي إلى الكثير من التضارب في الأحكام، وعدم الاستقرار في العمل القضائي ويفسح المجال واسعا لتحكم القضاة مما يؤدي في النهاية إلى ميل ميزان العدل.
وقد رد أصحاب الاتجاه الذي يقر بالسلطة التقديرية للقاضي بأن الشرعية الشكلية قد فقدت مقومات وجودها وأصبحت تشكل عبئا على العدالة التي يجب أن تأسس على عدالة موضوعية مناطها الضرورات، وليس مجرد عدالة شكلية، وهذا يحتم على القضاة أن يقوموا بتحقيق نوع من الموائمة بين مختلف القيم السائدة في المجتمع، بما يحقق الخير العام للجماعة.
فالسلطة التقديرية للقاضي لصيقة بممارسته لنشاطه القضائي أيا كان موضوع المنازعة، فهذه السلطة عمل يقوم به القاضي بهدف تحقيق الغاية الموضوعية من القانون ومن ثم تعد من صميم عمله، ومن الصعوبة بما كان أن نجد تعريفا واضحا دقيقا لهذه السلطة لأنها لا تقوم على أساس موضوعي فهي لا تختلف من حيث ممارستها من قاض إلى آخر فحسب، بل أنها قد تختلف لدى نفس القاضي باختلاف الظروف والأزمنة وكل ما يمكن قوله أن السلطة التقديرية مكنة لمواجهة ظروف تطبيق القانون.
وما دامت السلطة التقديرية للقاضي لصيقة بممارسته لنشاطه القضائي أيا كان موضوع المنازعة كما أشرنا، فإننا ارتأينا تخصيص دراستنا للسلطة التقديرية لقاضي شؤون الأسرة وذلك لعدة اعتبارات، منها عظم شأن هذا الفرع من فروع القانون واتصاله الوثيق بكل فرد من أفراد المجتمع، فقد يستغني الفرد عن قانون العقوبات أو قانون الجمارك مثلا طيلة حياته، إلا أنه لا يمكن له الاستغناء عن قانون الأسرة والخضوع لأحكامه، فكل فرد في المجتمع هو أب أو أم أو زوج وإن لم يكن كذلك فهو لا محالة ابن، فهذا القانون ينظم العلاقات الداخلية للأسرة ويرتب الحقوق والواجبات لأفرادها ويمس بجوهر الحياة الخاصة.
كما أن الدور الذي يلعبه قاضي شؤون الأسرة يختلف نوعا ما عن الدور الذي يقوم به باقي القضاة كالذين ينظرون في القضايا التجارية أو الاجتماعية، فحل المشاكل الأسرية يختلف عن حل باقي المشاكل لأن هذه الأخيرة مرتبطة بأمور شديدة الصلة بالمسائل النفسية والاجتماعية والدينية، وبالتالي فوظيفة القاضي هنا فيها جانب اجتماعي كبير باعتبار أن إصلاح الأسرة هو إصلاح للمجتمع بأكمله لأن الأسرة هي أصغر وحدة في النظام الاجتماعي.
وما تجدر الإشارة إليه أن قانون الأسرة الجزائري جاءت معظم نصوصه مرنة تسمح للقاضي بإيجاد الحل المناسب باختلاف الظروف والملابسات، فقد فتحت الباب واسعا أمام القاضي لإعمال سلطته التقديرية وإيجاد العلاج المناسب لكل عارض قد يعترض استقرار الأسرة أو يهدد مصالح أفرادها.
وقد اقتصرنا في دراستنا على معالجة دور القاضي في مسائل الزواج وانحلاله دون غيرها من المسائل نظرا لأهمية هذا الموضوع، إضافة إلى أن معالجة السلطة التقديرية للقاضي في كل ما ورد في قانون الأسرة يحتاج إلى مجلدات، وحتى مسائل الزواج وانحلاله فقد تطرقنا إلى النقاط التي تبين لنا أن لسلطة القاضي التقديرية أثر بالغ فيها وقد حاولنا أن نبين السبل التي يعتمد عليها القضاة في معالجة هذه النقاط وكيفية إعمالهم لسلطتهم التقديرية في ذلك باعتمادنا على ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قراراتها وكذا ما ذهب إليه فقهاء القانون وفقهاء الشريعة الإسلامية، إضافة إلى ما وقفنا عليه في تربصنا الميداني على مستوى مختلف المحاكم والمجالس القضائية.
والإشكالية التي يمكن أن نطرحها لمعالجة هذا الموضوع هي:
كيف يمارس قاضي شؤون الأسرة سلطته التقديرية لحل النزاعات المطروحة أمامه في مسائل الزواج وانحلاله؟.
وما هي السبل التي يعتمد عليها في ذلك؟.
وقد حاولنا الإجابة على هذه الإشكالية بتطرقنا إلى نقطتين أساسيتين:
أولا: دور القاضي عند نشوء الرابطة الزوجية وانحلالها.
ثانيا: مجال تدخل القاضي في الآثار المترتبة على نشوء الرابطة الزوجية وانحلالها.
وذلك من خلال الخطة التالية:
الخطــــة
الفصل الأول : السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية وانحلالها
المبحث الأول : السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية
المطلب الأول : مجال تدخل القاضي في الخطبة
المطلب الثاني: تحديد سن الزواج و سلطة القاضي في الإعفاء منه
المطلب الثالث: تعدد الزوجات وسلطة القاضي في الترخيص به
المبحث الثاني: السلطة التقديرية للقاضي عند انحلال الرابطة الزوجية
المطلب الأول: دور القاضي في الصلح والتحكيم
المطلب الثاني: سلطة القاضي في تقدير حالات التطليق
المطلب الثالث: تقدير القاضي للطلاق التعسفي والنشوز
الفصل الثاني: السلطة التقديرية للقاضي في الآثار المترتبة على نشوء الرابطة الزوجية وانحلالها
المبحث الأول: السلطة التقديرية للقاضي في الآثار المالية للزواج وانحلاله
المطلب الأول: الآثار المالية الناتجة عن الزواج وتقدير القاضي لها
المطلب الثاني: الآثار المالية الناتجة عن انحلال الزواج وتقدير القاضي لها
المطلب الثالث: مجال تدخل القاضي في النزاع حول متاع البيت
المبحث الثاني:السلطة التقديرية للقاضي في النسب والحضانة
المطلب الأول: تقدير القاضي لثبوت النسب ونفيه
المطلب الثاني: مجال تدخل القاضي في الحضانة
الفصل الأول
السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية وانحلالها
الفصل الأول: السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية وانحلالها
عالج المشرع الجزائري كل المسائل المتعلقة بالزواج والطلاق في قانون الأسرة رقم 84/11 الصادر بتاريخ 09 يونيو 1984 المعدل والمتمم بالأمر 05/02 المؤرخ في 27 فبراير 2005، وقد استمد جلّ أحكامه من الشريعة الإسلامية مراعيا في ذلك مستجدات العصر وتطور المجتمع، وحدد أحكاما وشروطا في عقد الزواج لابد من توافرها في المقدمين عليه، وخصه بمقدمات تتفق مع عظمته وقداسته.
كما نظم المشرع طرق فك الرابطة الزوجية في حالة عدم استقرارها وخصها بإجراءات عديدة فمنح حق الطلاق للرجل بالإرادة المنفردة كما أعطى للمرأة الحق في طلب التطليق والخلع ومنح لكل من تضرر من فك الرابطة الزوجية الحق في المطالبة بالتعويض.
ولضمان التقيد بأحكام هذا القانون جعل المشرع قاضي شؤون الأسرة رقيبا وحارسا أمينا لضمان التقيد بمختلف نصوصه، لكن مهما بلغت حيطة المشرع وحسن صياغته فإنه سيظل عاجزا عن معالجة كل الحالات المعروضة على القضاء، لذلك كانت جل النصوص مرنة تسمح للقاضي أن يواجه ظروف تطبيق القانون أي منح له سلطة تقديرية تيسر له جعل أحكام القانون متماشية مع مقتضيات الظروف ولتبيان دور القاضي في هذا المجال سنتطرق من خلال مبحثين اثنين إلى النقاط التالية:
أولا: السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية
ثانيا: السلطة التقديرية للقاضي عند انحلال الرابطة الزوجية.
المبحث الأول: السلطة التقديرية للقاضي عند نشوء الرابطة الزوجية
يعرف عقد الزواج على أنه :"عقد يفيد حل العشرة بين الرجل والمرأة وتعاونهما مدى الحياة بما يحقق ما يقتضيه الطبع الإنساني ويحدد ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات".
وهو من أهم وأخطر العقود في حياة الإنسان نظمه المشرع الجزائري في قانون الأسرة وحدد أحكامه فأفرد الفصل الأول للخطبة والزواج من الباب الأول منه- الزواج- من الكتاب الأول- الزواج وانحلاله- من المادة الرابعة إلى المادة الحادية والعشرين منه.
وقد جاءت معظم قواعد قانون الأسرة مرنة تاركة مجالا خصبا لتدخل القاضي من خلال ما يتمتع به من سلطة تقديرية حسب كل قضية معروضة عليه، وهذا ما سنحاول توضيحه في بعض النقاط التي نراها أساسية في إبراز هذه السلطة وتبيان دورها وهي كالآتي:
أولا: مقدمات عقد الزواج-الخطبة -
ثانيا: الإعفاء من سن الزواج
ثالثا: الترخيص بتعدد الزوجات.
المطلب الأول: مجال تدخل القاضي في الخطبة
عقد الزواج هو عقد موضوعه الحياة الإنسانية وهو عقد يبرم على أساس الدوام إلى نهاية الحياة ولهذا كانت مقدماته لها خطره وشأنه.
وقد عالج المشرع الجزائري موضوع الخطبة في المادتين الخامسة والسادسة من قانون الأسرة,وتعرف الخطبة اصطلاحا : أنها طلب رجل الزواج من امرأة معينة خالية من الموانع الشرعية وذلك بأن يتقدم إليها أو إلى أهلها لطلب الزواج منها وقد اعتاد الناس منذ القدم في أعرافهم على سلوك طريق الخطبة كإجراء تمهيدي يسبق عقد الزواج، والعلة في ذلك هو إتاحة الفرصة للخطيبين حتى يكونا مستعدين بشكل كامل لهذا العقد الهام ماديا ومعنويا.
وسنحاول تبيان مجال تدخل القاضي في هذه المسالة من خلال الفرعين التاليين:
أولا : تعويض الضرر المترتب على العدول عن الخطبة
ثانيا: سلطات القاضي فيما يخص الهدايا المقدمة خلال فترة الخطوبة.
الفرع الأول: تعويض الضرر المترتب على العدول عن الخطبة
لما كان العدول عن الخطبة حق لكل طرف فإنه إذا وقع انفضت الخطبة ولا يجوز للطرف الذي لم يعدل أن يطلب من القضاء الحكم بإلزام الطرف الآخر بالاستمرار في الخطبة وإبرام عقد الزواج دون إرادته وإنما يجوز للطرف المتضرر أن يطالب بالتعويض عن الضرر الذي لحق به.
ولا شك في أن العدول عن الخطبة قد يسبب أضرارا مادية ومعنوية للطرف المعدول عنه، إذ قد تستمر الخطبة زمنا طويلا ممّا يؤدي إلى تقدم المخطوبة في السن فيسبب لها ذلك ضررا يتمثل في تفويت الفرصة للزواج من الخاطب المناسب، أو قد تكون موظفة أو تتابع دراستها فتقدم استقالتها أو تتوقف عن الدراسة
استعداد للزواج ثم بعد ذلك يعدل الخاطب عن الخطبة، كما انه قد يطلب من الخاطب إعداد منزل خاص في مدينة معينة ويكلفه ذلك مبالغ باهضة ثم يحدث العدول من المخطوبة والأمثلة على ذلك كثيرة.
إضافة إلى أن مجرد العدول عن الخطبة يسبب أضرارا معنوية ولو من باب خدش الشعور وما تلوكه الألسنة عن أسباب العدول مما قد يؤذي سمعة المعدول عنه ويعرضه لكثير من الشائعات ويفتح باب التأويلات والظنون السيئة فيه وبالرجوع إلى نص المادة الخامسة من قانون الأسرة في فقرتها الثانية نجد أنها نصت على أنه: " إذا ترتب عن العدول عن الخطبة ضرر مادي أو معنوي لأحد الطرفين جاز الحكم له بالتعويض".
ومن خلال هذه الفقرة نلاحظ أن المشرع لم يبين بدقة سبب حدوث الضرر الموجب للتعويض أهو الضرر الناجم عن مجرد العدول أم هو الضرر الناجم عن تغرير احد الطرفين؟
وهنا يبرز مجال إعمال القاضي لسلطته التقديرية لإيجاد الحل المناسب.
وقد انتهى القضاء في مصر إلى ثلاث مبادئ متعلقة بالتعويض على العدول عن الخطبة سردها الدكتور عبد الرزاق السنهوري وهي:
1. أن الخطبة ليست بعقد ملزم.
2. أن مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سببا موجبا للتعويض.
3. أنه إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال أخرى ألحقت ضررا بأحد الخطيبين جاز الحكم بالتعويض.
وأساس الحكم بالتعويض عن العدول عن الخطبة هو التعسف في استعمال الحق وهذا ما أخذ به المالكية والحنابلة ، وليس مجرد العدول الذي هو حق للطرف العادل، فالقاضي يبحث عن سبب الضرر الناشئ عن العدول عن الخطبة فإذا كان هذا الضرر ناشئا عن مجرد الخطبة والعدول عنها فلا تعويض للطرف الذي يدعي الضرر، أما إذا كان سبب الضرر هو فعل أحد الطرفين فالقاضي يحكم بالتعويض, وما عليه إلا أن يدقق بحثه في أسباب العدول وتقدير جديتها من عدمه.
ويبدو أن الاجتهاد القضائي في الجزائر متفق مع ما استقر عليه القضاء في مصر وهذا ما يستشف من خلال قرار صادر عن المحكمة العليا بتاريخ 25/12/1989جاء فيه "... من المقرر أيضا أنه إذا ترتب على العدول عن الخطوبة ضرر مادي أو معنوي لأحد الطرفين جاز الحكم بالتعويض ومن ثمة فإن القضاء بما يخالف هذين المبدأين يعد خرقا للقانون..."
والتعويض الناجم عن العدول عن الخطبة يشمل التعويض عن الضرر المادي والمعنوي كما أشرنا، والضرر المادي هو الذي يصيب الطرف المتضرر في حق ثابت أو مصلحة مالية، لهذا فالقاضي لا يجد صعوبة في تقديره والتعويض عليه، أما الضرر المعنوي فهو الذي يصيب مصلحة غير مالية كالتشهير وتشويه السمعة هذا ما قد يجعل القاضي يجد صعوبة في تقديره والتعويض عليه ، ولتقدير قيمة التعويض يجب على القاضي أن يبحث أولا عن المعيار الذي يعتبر معه الفعل خطأ يستوجب التعويض عن العدول عن الخطبة.
وفي ذلك يرى جمهور الفقهاء أن المعيار المعول عليه في هذا المجال هو المعيار الموضوعي الذي يقدر فيه بمعيار السلوك المألوف للشخص العادي إذا وجد في نفس الظروف وأدى هذا الانحراف إلى الإضرار
بالطرف المعدول عنه كان مسؤولا عن تعويض هذا الضرر، كما أن القاضي يراعي في تقديره للتعويض شخص المضرور والمعيار المعتمد هنا هو المعيار الشخصي.
الفرع الثاني: سلطات القاضي فيما يخص الهدايا المقدمة خلال فترة الخطوبة
عالج المشرع الجزائري في نص المادة الخامسة من قانون الأسرة مصير الهدايا المقدمة من أحد الخطيبين بعد العدول عن الخطبة من أحدهما فجاء نصها كما يلي: "...لا يسترد الخاطب من المخطوبة شيئا مما أهداها إذا كان العدول منه وعليه أن يرد للمخطوبة ما لم يستهلك مما أهدته له أو قيمته. وإن كان العدول من المخطوبة فعليها أن ترد للخاطب ما لم يستهلك من هدايا أو قيمته".
من استقراء هاتين الفقرتين يتبين أن المشرع الجزائري أباح للطرف المعدول عنه استرجاع ما لم يستهلك من هدايا أو قيمته أما الطرف العادل فليس له الحق في استرجاع شيء.
ولعل في هذا الحكم الكثير من الغموض مما يفتح المجال واسعا لإعمال القاضي لسلطته التقديرية.
فعبارة – ما لم يستهلك- التي أوردها المشرع توحي بأن الطرف العادل إذا استهلك الهدايا أو تصرف فيها بأي شكل من الأشكال الناقلة للملكية فإنه لا يردها لانه لم يعد لها وجود وبالتالي فهي مستهلكة حسب ما جاء في النص القانوني- رد ما لم يستهلك – إلا إذا قصد المشرع من وراء ذلك عدم رد الهدايا التي تستهلك بطبيعتها أو لقلة قيمتها، كل هذا يجعل القاضي يبحث عن المعنى الحقيقي الذي قصده المشرع من هذه العبارة واستخلاص القصد السليم الذي يتماشى مع العقل والمنطق.
كما أن المشرع قد أغفل نقطة في غاية الأهمية ألا وهي حكم المتسبب في العدول عن الخطبة، فقد يدفع الخاطب هدايا ذات قيمة معتبرة وربما حتى بطلب من المخطوبة وبعدها تلجأ إلى التحايل بأن تقوم بتصرفات لا ترضي خطيبها أو تتعمد الخصام فتدفعه إلى العدول عن الخطبة وفي رأينا أنه يجب على القاضي قبل الحكم في مسألة كهذه أن يبحث عن المتسبب في العدول وعن الأسباب التي دفعت إليه، فإذا تبين له أن طرفا ما قد تسبب في العدول بأن غرر بالطرف الآخر، ما دفعه إلى العدول عن الخطبة جاز له أن يقضي على الطرف المتسبب في العدول بإرجاع الهدايا ولو أن العدول كان من الآخر، إذ من المتعارف عليه أن التغرير يوجب الضمان في أحكام الشريعة الإسلامية، وقد أخذ المشرع في دولة الإمارات العربية المتحدة بهذا الحل في المادة الثامنة عشر من قانون الأحوال الشخصية الإماراتي بوضعه للمتسبب في العدول في حكم العادل.
تبقى مسألة أخيرة شائعة الحدوث في كثير من ربوع الوطن وهي تقديم المهر للمخطوبة خلال فترة الخطوبة وقبل إبرام عقد الزواج فما هو الحل إذا تنازع الخاطب والمخطوبة عند العدول فيما قدمه هل هو مهر أم هدية؟ وهل بإمكان الرجل استرداد ما قدمه؟ وما هو الحل إذا اشترت المخطوبة بمقدار مهرها أو بعضه جهازا؟
في التشريع المقارن نجد أن المشرع الإماراتي تناول هذه النقطة في المادة 18 من قانون الأحوال الشخصية حيث اعتبر أنه من المهر الهدايا التي جرى العرف على اعتبارها مهرا وفي حالة عدول أحد الطرفين عن الخطبة أو وفاته يسترد الرجل المهر الذي أداه عينا أو قيمته يوم القبض إن تعذر رده عينا وفي حالة شراء المخطوبة بمقدار المهر أو ببعضه جهازا فلها الخيار بين إعادة المهر أو تسليم ما يساويه من الجهاز وقت الشراء، أما المشرع الجزائري فقد أغفل هذه النقطة وهنا على القاضي إعمال سلطته التقديرية والرجوع لأحكام الشريعة الإسلامية وذلك اعتمادا على نص المادة 222 من قانون الأسرة التي سمحت بالرجوع لأحكام الشريعة في كل ما لم يرد النص عليه، وفي هذه الحالة يعتبر كل من الخاطب والمخطوبة
مدعيا ومنكرا فأيهما أقام بينة على دعواه وأقنع القاضي حكم له وفقا لتقديره قوة حجته وبينته حسب الأدلة المقدمة.
من خلال ما تقدم لا يمكننا إلا أن نقول أن المشرع الجزائري رغم تطرقه لمقدمات الزواج في المادة 05 من قانون الأسرة إلا أنه لم يولها الاهتمام اللازم لذا وجب على القاضي بما له من سلطان التقدير أن يتحلى بالحكمة وحسن التدبير حسب ظروف كل قضية وحسب كل طرف من أطرافها وما عليه إلا أن يعتمد على نص المادة 222 من قانون الأسرة والتي تحيله إلى أحكام الشريعة الإسلامية وهذه الأخيرة لم تترك كبيرة ولا صغيرة إلا وعالجتها ورغم ذلك نرى أنه من الضروري تعديل نص المادة الخامسة من قانون الأسرة وهذا عملا على استقرار العمل القضائي وحتى لا يكون هناك تضارب في الأحكام القضائية نظرا لاختلاف الحلول التي وصلت إليها مختلف المذاهب الفقهية.
المطلب الثاني: تحديد سن الزواج وسلطة القاضي في الإعفاء منه
لقد نظم المشرع الجزائري أحكام الأهلية بصفة عامة في القانون المدني أما أهلية الزواج فقد نظمها في نص المادة 07 من قانون الأسرة والتي جاء نصها كما يلي "تكتمل أهلية الرجل والمرأة في الزواج بتمام تسعة عشر سنة.
وللقاضي أن يرخص بالزواج قبل ذلك لمصلحة أو ضرورة متى تأكدت قدرة الطرفين على الزواج.
يكتسب الزوج القاصر أهلية التقاضي فيما يتعلق بآثار عقد الزواج من حقوق والتزامات" فهذا النص وضع شرطا جوهريا متمثلا في التأكد من قدرة الطرفين على الزواج وأعبائه إضافة إلى ترشيد القاصر فيما يخص الحقوق والالتزامات التي يرتبها عقد الزواج، حيث لا يخضع لأية وصاية في شؤون أحواله الشخصية.
وما تجدر الإشارة إليه أن كل القوانين التي سبقت التعديل الأخير لقانون الأسرة الجزائري بموجب الأمر 05/02 المؤرخ في 27/02/2005 سواء ما صدر منها خلال فترة الاحتلال أو بعد الاستقلال كلها حافظت على الاستثناء الذي يمكن من إبرام عقد الزواج قبل اكتمال السن القانوني المحدد في القانون الحالي 19 سنة.
وأهلية الزواج من المسائل التي تتعلق بالنظام العام حيث لا يمكن إبرام عقد الزواج بدون مراعاة السن القانوني ولو ارتضى الطرفان على ذلك قياسا على الأهلية بصفة عامة وفكرة النظام العام تحدد من قبل المشرع بناءا على معتقدات المجتمع وعاداته وتقاليده لذلك منع المشرع الجزائري زواج الصغار ومنح للقاضي سلطة تمكنه من تحديد سن الزواج في حالة وجود مصلحة أو ضرورة تقتضي ذلك, ولم يعامل كل الأشخاص بنفس المعاملة نظرا لاختلاف ظروف وأحوال الناس مراعيا بذلك عادات المجتمع، فخروج المشرع عن القاعدة العامة للسن المحدد للزواج هو خروج مقيد بتعليق الزواج دون السن المحددة على طلب إعفاء مسبق يقدم إلى القاضي
المختص الذي يتعين عليه دراسة الطلب دراسة جدية وفحصه بعناية تامة تمكنه من معرفة ما إذا كان في هذا الزواج مصلحة للزوجين أو كانت هناك ضرورة, لذلك فقد جعل المشرع الجزائري القاضي رقيبا على تزويج الأشخاص الذين لم يبلغوا السن القانونية وجعل منه وليا غير مباشر لهم إن صح القول وأمينا على مصالحهم ومقدرا عادلا لظروفهم الخاصة ولما يواجههم من ضرورات ومصالح تخصهم هم أنفسهم.
وما يؤخذ على نص المادة 07 من قانون الأسرة المذكور أعلاه أنها لم تحدد صراحة القاضي المختص بمنح الترخيص، وبالرجوع إلى ما وقفنا عليه في التربص الميداني على مستوى المحاكم وجدنا هذا الاختصاص موكل لرئيس المحكمة ضمن ما يعرف بالسلطة الولائية، وفي هذا الصدد يقول الدكتور تشوار جيلالي في محاضرته التي ألقاها بمناسبة ملتقى حماية الطفولة "إن المنطق والمصلحة الفعلية للطفل يقضيان بأن يوكل الأمر لقاضي الأحوال الشخصية لدرايته وخبرته في هذا المجال إذ أنه يحتك يوميا بالمسائل المتعلقة بحالة الأشخاص، خاصة مسألتي الزواج والطلاق".
وتبدو هكذا أهمية هذا الاختصاص واضحة هنا إذ أن المسألة ليست فقط كما يعتقد البعض مسألة متصلة اتصالا وثيقا بالسلطات المخولة لرئيس المحكمة بل أنها تثير مشكلة اجتماعية وأن حلها لا يتم إلا إذا كان المختص بفضها عالما وعارفا بكل المعطيات المتصلة بها مستعملا في ذلك خبرته الميدانية، أي أن يكون ملما بكل المعايير المحددة لمصلحة الشخص القاصر المقبل على الزواج والذي يكون بحاجة ماسة لذلك الإذن"
النقطة الثانية التي يمكن ملاحظتها على نص المادة السابعة من قانون الأسرة المذكور أعلاه أن المشرع لم يحدد السن الأدنى في حالة الترخيص بزواج القاصر، وترك للقاضي سلطة تقديرية واسعة قد تؤدي إلى حالة زواج الصغار لأن المادة 222 من قانون الأسرة تحيل القاضي عند انتفاء النص التشريعي إلى أحكام الشريعة الإسلامية, وقد اختلف الفقهاء في مسألة زواج الصغار ممن دون سن البلوغ فذهب البعض منهم إلى منع زواج الصغار منعا مطلقا كعبد الرحمن ابن شبرمة وعثمان البتي وأبو بكر الأصم، بينما ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بصحة زواج الصغار ممن دون سن البلوغ، ولكل فريق أدلته وحججه ، وهذا ما يجعل الإذن بالزواج يخضع لثقافة القاضي من الناحية الدينية دون قيد ولا شرط وهذا عكس ما ذهب إليه المشرع السوري الذي حدد للقاضي السن الأدنى لمنح الترخيص في نص المادة 18 من قانون الأحوال الشخصية السوري حيث نصت على أنه "إذا ادعى المراهق إكمال البلوغ بعد إكمال الخامسة عشر أو المراهقة الثالثة عشر، وطلبا الزواج يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسميهما.
وفي رأينا فمصلحة الأطراف والمجتمع تقتضي بعدم تخويل القاصر حق الزواج إلا عند بلوغه سن معينة نتأكد من خلالها على القدرة الجسمية على تحمل التبعات التي يفرضها عليه الزواج وكذا التمتع بقدر كاف من التمييز حتى يتمكن من إدراك نتائج وعواقب ما هو مقبل عليه.
بالرجوع دائما إلى نص المادة 07 من قانون الأسرة نجد أنها تكلمت عن حالة الضرورة والتي بموجبها يمنح القاضي الإذن بالزواج للقاصر، إلا أن المشرع لم يحدد مفهوم حالة الضرورة وترك ذلك للقاضي بما له من سلطة تقديرية واسعة لأنه من أولى الأمر المختصين بتفسير القانون والبحث على نوايا ومقاصد المشرع في النصوص القانونية وما تعطيه في إزالة الإبهام وحل النزاع.
فالمصلحة أو الضرورة ركيزة أساسية بالغة الأهمية أرسيت عليها أحكام الترخيص بالزواج، كما أن المشرع لم يفصل المعايير التي تساعد القاضي في تحديد المصلحة أو الضرورة، وما يمكن قوله أن المصلحة أو الضرورة معيار نسبي يتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص, وعلى القاضي أن يدرس القضايا المطروحة عليه حالة بحالة, وأن يكون حذرا في تقدير المصلحة التي هي مناط الترخيص وألا يعطي هذا الترخيص إلا إذا توافرت الشروط اللازمة، كما لا يصح له بالمقابل أن يتعسف في استعمال سلطته ما دام الإذن لا يمس بمصالح المجتمع ومصالح الأطراف أنفسهم .
وفي نهاية هذا المطلب يجب أن نشير أن المشرع الجزائري حسن ما فعل في التعديل الأخير لقانون الأسرة بموجب الأمر 05-02 المؤرخ في 27/02/2005 فالمادة السابعة من قانون الأسرة أضافت شرطا جوهريا كان حلقة مفقودة في قانون الأسرة 84-11 والمتمثل في قدرة الطرفين على الزواج وذلك بتعليق الترخيص بزواج القصر على شهادة طبية وهذا حتى يتأكد القاضي من قدرة الطرفين على الزواج، وبهذا الشرط أصبح من الواجب على القاضي اللجوء إلى أهل الخبرة لمعرفة ما إذا كان القاصر المقبل على الزواج أهلا لذلك أم لا, وأن لا يكتفي عند منحه للترخيص بسلطته التقديرية.
المطلب الثالث: تعدد الزوجات وسلطة القاضي في الترخيص به
إن نظام تعدد الزوجات نظام قديم قدم البشرية فقد كان سائدا قبل ظهور الإسلام في شعوب كثيرة وقد أقرته الشرائع السماوية السابقة كاليهودية والمسيحية ، ولم يكن له عند أكثر هذه الأمم عدد محدود إلى أن جاء الإسلام ليضع نظاما حكيما للحفاظ على الأسرة والمجتمع فقصر التعدد على أربع زوجات مع اشتراطه العدل بينهن والقدرة على الإنفاق عليهن, وبهذا جاءت معظم مدونات الأحوال الشخصية في البلاد العربية والإسلامية والتي ترجع في أصلها إلى الشريعة الإسلامية على اختلاف مذاهبها ,بما فيها قانون الأسرة الجزائري الذي وضع تدابير لا تعتدي على النظام الذي رسمته الشريعة الإسلامية, وفي الوقت نفسه تزيل ما يمكن إزالته من فوضى التعدد ومساوئه على يد بعض الجهال أو قليلي الإنصاف من الرجال الذين لا يتقيدون بالتوجيهات الشرعية في هذا الموضوع.
وبالنظر للآثار المترتبة على تعدد الزوجات عبر التاريخ وعلى استثنائياتها وبالنظر لإخلالها بالقيم العالمية في مجال التطبيق والمس بكرامة الإنسان ولما كان قانون الأسرة الجزائري قبل تعديله قد فتح المجال واسعا لضروب التجاوزات التي ألحقت أضرارا بالغة تخل بمقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء، وتناقض الدستور وتمس بكرامة الإنسان جاء التعديل الأخير لهذا القانون بموجب الأمر 05/02 المؤرخ في 27/02/2005 في المادة الثامنة لتحديد إباحة تعدد الزوجات في إطار خاص وبشروط خاصة وأعطت هذه
المادة للقاضي المختص سلطة تقديرية واسعة في منح الترخيص للزوج الذي يرغب في التعدد وذلك بغية عدم تعسف بعض الأزواج وتهورهم.
فالمادة الثامنة من قانون الأسرة نصت "يسمح بالزواج بأكثر من زوجة واحدة في حدود الشريعة الإسلامية متى وجد المبرر الشرعي وتوفرت شروط ونية العدل.
يجب على الزوج إخبار الزوجة السابقة والمرأة اللاحقة التي يقبل على الزواج بها، وأن يقدم طلب الترخيص بالزواج إلى رئيس المحكمة لمكان الزوجية.
يمكن لرئيس المحكمة أن يرخص بزواج جديد إذا تأكد من موافقتهما وأثبت الزوج المبرر الشرعي وقدرته على توفير العدل والشروط الضرورية للحياة الزوجية".
وباستقراء نص هذه المادة نلاحظ أن المشرع الجزائري لم يطلق حكم التعدد كما أشرنا، وإنما قيده بشروط تضمن سلامة تطبيق هذا الحكم من خلال تحقيق مقاصده وتفادي المفاسد والأضرار التي يرتبها في حالة عدم مراعاة الزوج لها، وهذه القيود هي:
- وجود المبرر الشرعي.
- توافر شروط ونية العدل
- إعلام الزوجة السابقة والمرأة اللاحقة.
- تقديم طلب الترخيص بالزواج إلى رئيس المحكمة لمكان مسكن الزوجية.
وقد وضع المشرع الجزائري جزاء لمخالفة هذه الشروط والإجراءات، فإذا تخلف شرط العدل بين الزوجات من حيث ممارسته، فقد أجاز القانون للزوجة طلب التطليق في المادة 53 من قانون الأسرة في فقرتيها السادسة والعاشرة حيث جاء فيها أنه يجوز للزوجة أن تطلب التطليق لمخالفة أحكام المادة 08 أعلاه وكذا لكل ضرر معتبر شرعا، كما فتحت المادة 08 مكرر من نفس القانون الباب واسعا أمام المتضرر- الزوجة- من عدم مراعاة هذا الإطار وهذه الشروط لرفع دعوى قضائية ضد الزوج للمطالبة بالتطليق وذلك في حالة التدليس، كما ان المادة 08 مكرر1 حددت جزاء الزواج الذي يتم دون استصدار ترخيص من القاضي المختص وهو الفسخ قبل الدخول.
بالرجوع إلى شروط تعدد الزوجات المنصوص عليها في المادة 08 من قانون الأسرة نلاحظ أن المشرع الجزائري منح للقاضي سلطات واسعة في تقدير توافر هذه الشروط وجعله رقيبا وأمينا على عقود الزواج التي تبرم أمامه، وهذا ما سنحاول توضيحه في ثلاثة فروع.
أولا: دور القاضي في تقدير المبرر الشرعي.
ثانيا: كيفية تقدير القاضي توفير الزوج للعدل بين الزوجات والشروط الضرورية للحياة الزوجية.
ثالثا: سلطة القاضي في تقدير رأي الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل الزوج على الزواج بها فيما يخص مسألة التعدد.
الفرع الأول: دور القاضي في تقدير المبرر الشرعي
في واقع الأمر يبدوا أن هذا الشرط مناسب بل ضروري لإباحة التعدد غير أن المشرع الجزائري لم يوضح المقصود منه كما لم يبين أشكاله التي يباح معها للزوج أن يتزوج من إمرأة أخرى , لكن بالرجوع للمنشور الوزاري رقم 84 -102 الصادر بتاريخ 23/12/1984 الذي أصدره وزير العدل كتفسير للمادة 08 قبل تعديلها نجد أنه حصر شرط المبرر الشرعي في مرض الزوجة مرضا عضالا أو حالة عقمها لا غير حيث جاء فيه " إذا طلب من الموثق أو ضابط الحالة المدنية تلقي عقد زواج بثانية فعليه أن يتحقق من توفر الشرط الأول الذي هو المبرر الشرعي، ويكتفي في إثباته بشهادة طبية من طبيب اختصاصي تثبت عقم الزوجة الأولى أو مرضها العضال، فإذا لم يثبت العقم أو المرض العضال رفض الموثق أو الموظف المختص تلقي العقد" وبذلك جاء هذا المنشور الوزاري متجاهلا لغير ذلك من المبررات الأخرى كقصد العفة مثلا, هذا ما جعل وزير العدل يصدر منشورا ثانيا بتاريخ 22/08/1985 تحت رقم 14 أضاف فيه"حالات يقدرهـا القاضي خاصة في حالة رضا الزوجة الأولى وللقاضي السلطة التقديرية في أن يرخص بالزواج الثاني أو يرفضه بمجرد أمر على عريضة غير قابلة للطعن.
كما نشير أن المنشور الثاني أي الصادر بتاريخ 22/08/1985 أضاف مبررا آخر لتعدد الزوجات وهو إثبات وجود دعوى طلاق مرفوعة أمام القضاء بتقديم شهادة من كتابة الضبط إلا أن هذا قد يؤدي لكثير من التحايل فقد يقوم الزوج برفع دعوى الطلاق ثم يتركها بعد تسجيل عقد الزواج الثاني.
وما نخلص إليه في هذه النقطة أن مسألة تقدير المبرر الشرعي ليست بالأمر اليسير لذا وجب على القاضي أن يكون حكيما واسع الأفق لمعرفة الدوافع التي أدت بالزوج إلى الزواج من امرأة ثانية فقد يكون سببها نزاع عابر بينه وبين زوجته الأولى وهنا يحاول بحكمته إصلاح ذات البين وتلطيف الأجواء بين الزوجين بدلا من منح ترخيص بالزواج على أساس دوافع واهية لأن هذا الزواج الأخير والذي لم يكن مبني على أسس جدية سيؤدي لا محال إلى العديد من المشاكل، أما إذا تأكد القاضي من جدية دوافع الزوج كمرض زوجته الأولى أو عقمها أو عدم قدرتها على إعطاء الزوج حقوقه الشرعية فمن الأفضل أن يمنح له الترخيص بالزواج من امرأة ثانية بدلا من أن يدفعه إلى تطليق زوجته الأولى خصوصا إذا تأكد من موافقة هذه الأخيرة.
الفرع الثاني:كيفية تقدير القاضي توفير الزوج للعدل بين الزوجات والشروط الضرورية للحياة الزوجية.
المشرع الجزائري اشترط على الزوج المقبل على الزواج من امرأة ثانية إثبات قدرته على تحقيق العدل بين زوجاته ولم يبين الإجراءات الكفيلة لتحقق القاضي من هذا الشرط وهنا لا بد أن نشير على أن العدل المقصود هو العدل الذي يستطيعه الإنسان ويقدر عليه وهو التسوية بين الزوجات في النواحي المادية من نفقة وحسن معاشرة ومبيت, وليس المراد به التسوية في العاطفة والمحبة والميل القلبي لأن هذا غير مستطاع لأحد , وبناءا على هذا فشرط تحقيق العدل المذكور في المادة 08 أمر مستقبلي وهذا ما يصعب مهمة القاضي، إن لم يجعلها مستحيلة للتأكد من توفر هذا الشرط، وفي هذا الصدد يرى الأستاذ محمد عطوي أنه من الأفضل تقدير مدى توفر شروط العدل لمراقبة القضاء بعد إتمام الزواج الثاني حتى لا يكتفي القاضي بأمور غيبية بل يكلف بأمور محققة لأن القضاء يدفع الظلم الواقع ولا يتجه للنظر في الظلم المحتمل الوقوع وهذا ما جعل وزير العدل يرى في المنشور الوزاري المؤرخ في 23 /12/1984 أن إثبات نية العدل هو من صلاحيات القاضي وحده وعلى الزوجة إثبات عدم توفيره عند التنازع أمام المحكمة المختصة أثناء طلب الطلاق ليتسنى للقاضي الحكم لها بالتعويض المناسب, أي أن القاضي لا يتدخل إلا بعد إنشاء عقد الزواج للتأكد من مدى توافر شروط ونية العدل ، إلا أننا نرى عكس ما ذهب إليه الأستاذ محمد عطوى في عدم تدخل القاضي لتقدير مدى توفر شرط العدل إلا بعد إنشاء عقد الزواج، فحتى وإن كان هذا الشرط نفسيا لا يمكن للقاضي الإطلاع عليه إلا أن هذا لا يمنع من تدخله قبل منحه للترخيص وذلك بتنبيه الزوج على ضرورة الالتزام بالعدل بين زوجاته والعواقب الناتجة من جراء عدم العدل بينهن خاصة ما يتعلق بإمكانية طلب الزوجة للتطليق, وكذا التعويضات عن كل الأضرار المادية والمعنوية التي تلحق بها, إضافة إلى تذكيره بالأحكام الشرعية المتعلقة بالعدل بين الزوجات كحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: "من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا".
أما الشرط الثاني المتعلق بإثبات الزوج لقدرته على توفير الشروط الضرورية للحياة الزوجية، أي رقابة القاضي على القدرة المالية للزوج، فيمكن التأكد منه بسهولة كالإطلاع على دخل الزوج من خلال شهادة كشف الراتب إن كان موظف أو من خلال رقم أعماله التجاري إن كان تاجرا وحتى من خلال شهادة الشهود إلى غير ذلك من وسائل الإثبات وهنا يتأكد القاضي أن للزوج دخل يكفيه لإعالة زوجتين أو أكثر حسب الحالة مع الإنفاق على أولاده كما يمكن له أن يتثبت من حالة الزوج الصحية وأنه قادر على الزواج بزوجة أخرى، وأن احتمال الأضرار منتف في الحال والمآل, فإن أثبت الزوج كل هذا رخص له القاضي بالزواج وإن لم يثبت فإن في الترخيص مظنة حصول المفسدة وهو أمر غير جائز ويتنافى مع مشروعية التعدد.
الفرع الثالث: سلطة القاضي في تقدير رأي الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل الزوج على الزواج بها فيما يخص مسألة التعدد
حسب المادة 08 من قانون الأسرة المذكورة أعلاه يجب على الزوج إخبار الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل على الزواج بها بأنه يرغب في الزواج من امرأة ثانية وهكذا يكون المشرع الجزائري قد راعى شعور الزوجة السابقة للزوج والمرأة التي يقبل على الزواج بها في شأن إقدام الزوج على الجمع بينهما، ولقد بين المنشور الوزاري الصادر عن وزير العدل والمؤرخ في 23/12/1984 كيفية الإعلام وذلك بإخبار كل من الزوجة السابقة واللاحقة إن حضرت أمام الموثق أو ضابط الحالة المدنية- هذا في ظل قانون الأسرة قبل التعديل وأمام القاضي بعد التعديل الأخير لهذا القانون- برغبة الزوج في إبرام عقد الزواج بثانية ويسجل في السجل الخاص بطلبات التعدد رضى كل منهما أو اعتراض الزوجة السابقة ليكون ذلك حجة يرجع إليه عند التنازع، فإن تعذر حضور هذه الأخيرة يتعين إبلاغها للحضور في أجل معقول بعقد غير قضائي بواسطة مصلحة التبليغ بالمحكمة بالتاريخ والمكان الذي سيبرم فيه عقد الزواج الثاني, فإن حضرت واعترضت يسجل الموثق أو ضابط الحالة المدنية اعتراضها، وإن تغيبت أثبتت غيبتها وأبرم العقد.
وهنا لابد أن نشير أنه على القاضي التأكد من إعلام الزوجة السابقة والمرأة التي يقبل الزوج على الزواج بها وأن يسعى جاهدا لحضور كل منهما أمامه.
بالرجوع دائما لنص المادة 08 من قانون الأسرة المذكورة أعلاه نجد أنها اشترطت لمنح الترخيص موافقة الزوجة السابقة، والمرأة التي يقبل الزوج على الزواج بها، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ماذا لو تعسفت الزوجة في استعمال حقها وأبدت رفضها بدون مبرر شرعي سوى الإضرار بالزوج والغيرة العمياء, وأثبت الزوج المبرر الشرعي وقدرته المالية وكل الشروط الضرورية واللازمة للتعدد، فهل يمتنع رئيس المحكمة عن منحه الترخيص بالزواج أم لا؟
من خلال التربص الميداني الذي أجريناه عبر المحاكم لاحظنا أن أغلب القضاة يمنحون الترخيص بالزواج في هذه الحالة وحسنا ما فعلوا لأن القاضي يجب أن يكون دقيقا وصائب التقدير إذا رفضت إحداهما الزواج عليها خصوصا الزوجة الأولى ومدى مطابقة رفضها لأحكام العدل، والمصلحة العامة للمجتمع.
فعلى القاضي أن يوازن بين قيمة المبرر الشرعي والقدرة على توفير العدل والشروط الضرورية للحياة الزوجية وبين موافقة الزوجة السابقة، حتى يكون قراره عادلا ومحققا للغاية التي أباح القانون والشرع لأجلها تعدد الزوجات.
المبحث الثاني: السلطة التقديرية للقاضي في انحلال الرابطة الزوجية
لقد حدد المشرع الجزائري أسباب انحلال الرابطة الزوجية ضمن الباب الثاني من الكتاب الأول تحت عنوان "انحلال الزواج" فالمادة 47 من قانون الأسرة نصت: "تنحل الرابطة الزوجية بالطلاق أو الوفاة".
وقد حصر اهتمامه في توضيح انحلال الرابطة الزوجية عن طريق الطلاق باعتبار أن الوفاة لا تثير أي لبس من حيث مفهومها.
والطلاق علاج هدام فهو كالبتر لبعض أعضاء الجسم لا يلجأ إليه الأطباء إلا اضطرارا لإنقاذ الحياة أو لدفع ضرر في الصحة أعظم من البتر ، فكذلك لا ينبغي شرعا اللجوء إلى الطلاق إلا عندما تكون الحياة الزوجية غير منسجمة, فالطلاق هو هدم لكيان الأسرة الذي يبنيه الزواج فهو ضرر لكنه ضروري لدفع ضرر أعظم منه، وقانون الأسرة الجزائري سمح للزوج أن يضع حدا للعلاقة الزوجية بإرادته المنفردة بواسطة الطلاق كما سمح للزوجة كذلك أن تنهي هذه العلاقة عن طريق الخلع أو التطليق وجعل القاضي حارسا ورقيبا أمينا على ذلك حتى لا يتعسف كل ذي حق في استعمال حقه كما منح له سلطة تقديرية واسعة لمحاولة إصلاح ذات البين بين الزوجين قبل انحلال الرابطة الزوجية وفي تقديره لحالات التطليق إضافة إلى تقدير تعسف الزوج في الطلاق وكذا تقديره للنشوز وعليه سنحاول معالجة ذلك في النقاط التالية:
أولا : دور القاضي في الصلح والتحكم
ثانيا: سلطة القاضي في تقدير حالات التطليق.
ثالثا: تقدير القاضي للطلاق التعسفي والنشوز.
المطلب الأول: دور القاضي في الصلح والتحكيم
تعد إجراءات الصلح والتحكيم في فك الرابطة الزوجية من الإجراءات الهامة والأولية التي أوجب قانون الأسرة على القاضي القيام بها قبل الشروع في بحث موضوع النزاع وإصدار حكم بشأنه وجعلها إجبارية.
لهذا يحسن بنا تقسيم هذا المطلب إلى فرعين نعالج في الأول إجراءات الصلح ومدى مساهمة القاضي في إصلاح ذات البين، ونعالج في الثاني إجراءات التحكيم ومدى مساهمة الحكمين والقاضي في فض النزاع بين الزوجين.
الفرع الأول: إجراءات الصلح وجهد القاضي في فض النزاع بين الزوجين.
نص المشرع الجزائري في المادة 49 من قانون الأسرة بأنه: "لا يثبت الطلاق إلا بحكم بعد عدة محاولات صلح يجريها القاضي دون أن تتجاوز مدته ثلاثة أشهر ابتداءا من تاريخ رفع الدعوى.
يتعين على القاضي تحرير محضر يبين مساعي ونتائج محاولات الصلح، يوقعه مع كاتب الضبط والطرفين.
تسجل أحكام الطلاق وجوبا في الحالة المدنية بسعي من النيابة العامة" يفهم من هذا النص أنه لا يثبت الطلاق إلا بحكم من القضاء وأن محاولات الصلح إجراء إجباري يجب على القاضي القيام به قبل النطق بالطلاق, وعليه فإنه يجب على القاضي المختص بنظر موضوع الدعوى أن يستدعي الزوجين معا إلى مكتبه بواسطة المحضر القضائي أو بأي طريقة يراها مناسبة وذلك بمجرد تسجيل الدعوى وطرحها عليه.
وأن يعين لهما جلسة خاصة في تاريخ محدد، يسمع فيها مزاعم كل واحد من الزوجين ثم يحاول أن يصلح بينهما بإظهاره لمساوئ النزاع ومضار الفرقة وبيان محاسن الألفة والانسجام، والتسامح المتبادل من أجل ضمان حياة زوجية هادئة لصالحهما وصالح أطفالهما، ولصالح استمرار علاقة القرابة والمصاهرة بين عائلتي الزوجين ، فإذا فشل القاضي في التوفيق بينهما فعليه أن يحاول مرة ثانية إذا تبين له جدوى محاولة الصلح فإذا فشل مرة ثانية ورأى أن هناك إمكانية للوصول إلى إصلاح ذات البين فله الحق في إجراء محاولة صلح ثالثة ورابعة لأن القانون أعطاه الحق في إجراء عدة محاولات للصلح قبل الطلاق على أن لا يتجاوز ثلاثة أشهر ابتداء من تاريخ رفع الدعوى، وهنا تتجلى سلطة القاضي التقديرية, وسواء أنجح القاضي أو فشل في محاولات الصلح فإنه يحرر محضرا بما توصل إليه من نتائج ويوقعه مع كاتب الضبط والطرفين، وهذا حسب نص المادة 49 في فقرتها الثانية المذكورة أعلاه، وأن يحيل الطرفين إلى حضور جلسة علنية تنعقد ضمن الجلسات المقرر للمحكمة وعندئذ يقع النقاش في الموضوع ثم يصدر القاضي حكمه.
لكن ما يلاحظ على قانون الأسرة الجزائري أنه سكت عن إجراءات انعقاد جلسات الصلح ,هذا ما يجعلنا نعتقد أنه يمكن أن تنعقد هذه الجلسات بناءا على رسالة مضمنة أو بواسطة محضر قضائي أو عن طريق استدعاء من كتابة الضبط، عمليا ومن خلال التربص الميداني لاحظنا أن القاضي يعلم الزوجين بجلسة الصلح شفويا في جلسة من جلسات المحاكمة، المهم لكي تنعقد جلسة الصلح يجب إعلان الزوجة إعلانا صحيحا يترتب عليه إيصال العلم إليها بتاريخ الجلسة وما قيل عن الزوجة يقال عن الزوج في حالة طلب التطليق من الزوجة لأن محاولات الصلح تعد أحد العناصر الجوهرية لصحة العمل القضائي.
ويجب على القاضي أن يتثبت من هوية الزوجين في هذا الطور الصلحي، لأن هناك نسوة تعرضن لعمليات تغرير فاحش نجمت عنها مضار جسام قد يعسر إصلاحها فالذي يحصل في هذا الصدد أن من الأزواج من تقدم بطلب الحكم بالطلاق وأحضر لجلسة محاولة الصلح امرأة غير زوجته المعنية بالأمر وتأتى له بهذه الوسيلة الحصول على الاتفاق على الطلاق والتنازل عن الحقوق التي كفلها القانون للزوجة .